بين المساعدة والهيمنة
غالب قنديل
واهم من يتخيل فرصة مفترضة لإنتاج تسوية لبنانية أو ما يحبّ الساسة تسميته صيغة لإنقاذنا من الانهيار الاقتصادي الكارثي، الذي يزحف على بلدنا ونظامنا المالي أو ماتبقى منه، بينما شعبنا وأحزابنا غافلون ومتخلفون عن فهم حقيقة الأزمة، وعن فحوى المخاطر المرفقة بجداول مالية إسعافية متضخمة في وعودها، والمطلوب من التزامات مالية واقتصادية قريبة أو بعيدة في السياق نفسه تحت شعار المساعدة والإنقاذ في حلقة استنزاف مالي متجدّد.
أولا في مجابهتنا مع الواقع الكارثي الراهن لا هدايا ولاهبات بل ركام جديد من الديون والفوائد، التي أورثتها عقود الهيمنة الغربية اللصوصية من خلال النمط الريعي التابع، الذي خرب موارد الثروة الحقيقية، ولن تأتي وصفة موجات الإغاثة بالديون الغربية إلا لتثبيت الهيمنة اللصوصية، بعد هدر أموال قد يُضخ بعضها المشروط سياسيا في عروق النظام المتصلّبة واليابسة مع الفوائد.
يشترط الغرب عادة مقابل الديون تسهيلات مطلوبة لصالح الشركات وخططها للهيمنة على الموارد والأسواق، وللحصول على فرص للنهب بأقل التكاليف الممكنة، وهو يفترض في كل صفقة مع دول العالم الثالث فرصة نادرة لمراكمة الأرباح، يغلّفها بدعاية خبيثة عن المساعدة والدعم، وهذا هو فحوى الدعاية الفرنسية عن احتضان لبنان واحتواء كارثته الاقتصادية.
ثانيا ادعاءات المساعدة في قلب حظيرة الرعاية الغربية وجوهر اللصوصية والنهب وسائر الطروحات السياسية الغربية، جوهرها تجديد الهيمنة. وينبغي دائما قراءة ما بين سطور بيانات النوايا الحسنة وأدبيات المساعدة والدعم بادّعاءات الصداقة ونفاقها، التي تفضحها حسابات الفوائد والمصالح والغنائم التي تجنيها الشركات الغربية في عقود محصّنة في الدول المديونة في العالم الثالث. من خلال تسويق الوهم المعمم في ثقافة الرضوخ لهيمنةِ امبريالية المساعدات التي تسوق لفكرة جبرية الرضوخ أمام املاءات الغرب السياسية والاقتصادية والمالية المطابقة لدفاتر شروط القروض والديون المشددة والمكرسة لإلحاق الدول المديونة بمنظومة النهب اللصوصي. وواهم ودجال من يقدّم صورة أخرى لحقيقة ما يدور حول مساعي إغاثة الاقتصاد اللبناني.
إن جميع وصفات اقتصاد المساعدة التي طبّقها الغرب في العالم الثالث، لم تكن غير غلاف متجدّد لعمليات النهب الاستعماري، ومن المفارقات المحزنة والمخيّبة، أن يكون لبنان، الذي حرّر أرضة بالقوة من أبشع احتلال استعماري عرفه التاريخ المعاصر، عاجزا عن تحرير إرادته السياسية لشقّ طريق التحرّر الاقتصادي والاجتماعي وإعادة البناء الوطني.
ثالثا من المحزن أن بلد المقاومة، التي انتصرت على الاحتلال الاستعماري الصهيوني وهزمت الوصاية الغربية وبعد انتصارها على الاحتلال مضطر للرضوخ أمام شروط الديون اللصوية المجحفة وفوائدها الربوية وقيودها الريعية اللصوصية لأنه فوّت الفرص التي كانت سانحة لتطبيق برنامج لإعادة البناء الوطني، كانت وما تزال متاحة، لكن تجذّر عقلية الخنوع والكساح الفكري أمام الهيمنة والتبعية مسحت العقول وأقعدتها عن الابتكار. وبينما تخاذل الوطنيون أمام تحدّي صياغة برنامج وطني، وقعدوا عن واجب المبادرة السياسية والشعبية الثورية، التي تجسّد إرادة التحرر والاستقلال بدلا من علك واجترار جميع الوصفات المتداولة، التي تجدّد الهيمنة وتعمّق التبعية للغرب بشروط أشد صعوبة وقسوة من كل ما سبق.
وأي رعاية للمخارج يقدّمها المعسكر الغربي سوف تتكفّل بحماية الهيمنة بما فيها جوهريا من سيطرة لصوصية واستثمار لحالة الفقر ونضوب الموارد، التي يئن لبنان تحت وطأتها. حيث تتلهف الشركات الأجنبية لفرض سيطرتها عبر صفقات مربحة ومغرية لكسر حلقة الركود الخانق، الذي تعيش دول الغرب المهيمنة تحت وطأته، وهي متحفزّة لفرص وأرباح مغرية باستغلال حالة الانهيار إلى أقصى مدى ممكن لحصد الأرباح. وكعادتها تقدّم الوليمة على أنها عملية طارئة لإسعاف بلد منكوب بدافع الرأفة والصداقة والعطف. وفي الحالة اللبنانية بسبب انفعال “الأم الحنون” التي “تهب حضنها” من جديد، وفيه ما فيه من كلّابات النهب وأدوات السرقة.