«الهجوم الروسي على سورية» دلالات وأهداف…: العميد د. أمين محمد حطيط _
من الطبيعي ان تكون محلّ اهتمام كبير زيارة الوفد الروسي الفضفاض الى سورية برئاسة نائب رئيس الوزراء وعضوية وزير الخارجية وجمع كبير من المسؤولين السياسيين والاقتصاديين. اهتمام يعود إلى توقيت الزيارة أولاً ثم إلى اللون الراجح للوفد (من الجانبين الاقتصادي والسياسي)، اللذين شكلا إضافة الى الدور العسكري الروسي في سورية الذي بدأ جدياً وفاعلاً منذ 5 سنوات وتطوّر إلى المستوى الذي بات عليه اليوم في قواعده العسكرية بحراً وبراً وفي مهام ميدانية متنوّعة تنفذ تحت أكثر من عنوان عملاني وأمني منفرد او منسّق.
فبعد انقطاع استمرّ لأكثر من 8 سنوات ترسل روسيا الى سورية وفداً بهذا المستوى وبهذه المهام، وهي التي كانت توقفت عن ذلك منذ بدايات الحرب العدوان على سورية، وتحديداً أكثر بعد صدور بيان جنيف للعام 2012 الذي اعتمد من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (معها على سبيل الديكور دول إقليمية من أجل إضفاء الصفة الدولية والإقليمية الواسعة على الاجتماع) اعتمدته ليكون خارطة طريق لوقف الحرب التي كانت نارها قد أضرمت بيد محلية تحرّكها إرادة خارجية.
قرار جنيف للعام 2012 تضمّن كما هو معروف جملة من البيانات حصل خلاف بشأن تفسير بعضها بين لافروف وهيلاري كلينتون وزيرة خارجية أميركا آنذاك، خلاف حول مستقبل الرئيس بشار الأسد في سورية حيث تمسّكت أميركا بتفسير يوجب مغادرة الرئيس والدخول في مرحلة انتقالية للحكم وتنظيم عملية انتقال السلطة، وهو تفسير اعترض عليه لافروف في ما خصّ وضع الرئيس، ولكن لم يؤخذ باعتراضه يومها من قبل المؤتمرين، فجاء الردّ الفصل من دمشق التي أجابت بالقول والفعل إنّ من يقرّر مصير سورية والحكم فيها هي سورية وسورية وحدها، وهكذا كان، وتتابعت الحرب العدوان على سورية واستمرّ الصمود السوري الناشط ونجح في المحافظة على هيكلية الدولة مع التمسك بوحدة الأرض السورية ورفض أيّ تدبير يمسّ بتلك الوحدة والسيادة. وبعد 3 سنوات ونيّف على قرار جنيف 2012، وبعد طول ترقب وانتظار لبّت روسيا طلباً من الحكومة السورية لتقديم مساعدة عسكرية لتعزيز الدفاع السوري في وجه العدوان.
لم تكن الاستجابة العسكرية الروسية في العام 2015 وبالشكل الذي تمّت فيه ضرباً من الانتحار او المغامرة غير المحسوبة النتائج ـ بل كانت مدروسة وممنهجة ومحسوبة بدقة تمّ تنفيذها بعد ان تحققت روسيا انّ سورية وحلفاءها صامدون وانّ العدوان لن يحقق أهدافه، وبالتالي رأت أنّ الاستثمار في سورية لن يذهب هدراً «فدخلت الى الميدان السوري بقوة محسوبة وكان لدخولها بالشكل الذي تمّ أثر بالغ في تفعيل الدفاع السوري وتسريع استعادة سيطرة الدولة على ما خرج من يدها، لا بل يمكن القول، كان فيه إرباك لقوى العدوان على سورية التي رأت انّ دخول مكون بثقل روسيا الى جانب سورية يعني وبكلّ التأكيد استحالة مطلقة لنجاح العدوان، اذ انّ سورية وحلفاءها في محور المقاومة فقط منعوا تحقيق ذلك فكيف يكون الحال مع دخول طرف بحجم روسيا ذات الفيتو في مجلس الأمن والقدرات العسكرية التي تجعلها مصنّفة الثانية في العالم بعد أميركا عسكرياً.
استطاعت روسيا وفي خلال سنوات ثلاث من العمل العسكري إلى جانب سورية ان تحقق الكثير لنفسها استراتيجياً وسياسياً، وان تساعد سورية على تحقيق إنجازات هامة في الميدان يمكن القول فيها إنها أسقطت الكثير من المشاريع الأساسية والمشاريع البديلة التي أعدّها المعتدون، واستطاعت ان تطلق بالموازاة مع منصة جنيف، ان تطلق منصة استانة التي تجمعها مع إيران وتركيا التي تعتبر طرفاً رئيسياً متقدّماً في العدوان على سورية يطمع بأرضها وثرواتها، ورغم انّ منصة استانة انطلقت بعناوين عسكرية ميدانية بحت و»شعارها خفض التصعيد» للتمكن من الانطلاق في حلّ سياسي، فإنها سارت أولاً بموازاة منصة جنيف ثم تقدّمت عليها وحجبتها، ثم تخطت الأمور المنصّتين لتذهب في اتجاه آخر يكاد ينحصر في المسار السياسي باللجنة الدستورية المتعثرة وبالمسار العسكري بما يتداول حالياً بشأن منطقتي إدلب وشرقي الفرات المتبقيتين خارج اليد الشرعية السورية.
في ظلّ هذا المشهد الذي قد يوصف بأنه دخول في حالة مراوحة يستبعد فيها الحسم القريب على أيّ مسار سياسي او عسكري في الشهور القليلة المقبلة، لاعتبارات دولية وإقليمية وذاتية يأتي الوفد الروسي الى سورية في شكل «تظاهرة اقتصادية سياسية» تحمل الكثير من الدلالات والرسائل التي يمكن ذكرها كالتالي:
1 ـ توحي الزيارة بأنّ روسيا تنظر الى الوضع السوري بأنه اتخذ الشكل ما قبل النهائي بعد الحرب الكونية التي استهدفت سورية، وتريد روسيا وقبل انتهاء الحرب ان تفتتح او تهيّئ لافتتاح مرحلة ما بعد الحرب وهي إعادة الإعمار، وترى انها تستطيع الآن ان تأخذ من سورية أكثر بكثير مما يمكن ان تأخذه عندما تطوى نهائياً صفحة الميدان وتتبلور بشكل نهائي المعالجة السياسية. من هنا نفهم كيف انّ الوفد حصد 40 مشروعاً واتفاقاً في زيارته تلك.
2 ـ تريد روسيا أن ترسل رسالة حاسمة الى أميركا مفادها انّ «قانون قيصر» وكلّ التدابير التي تتخذها من أجل منع إطلاق إعادة إعمار سورية او منعها من المشاركة فيها أو وضع إعادة الإعمار تحت السيطرة والقبضة الأميركية لن تجدي نفعاً وانّ من أفشل العدوان الإرهابي في الميدان قادر على المساهمة في إفشال الإرهاب الاقتصادي الذي بات ماركة أميركية مسجلة تمتهنها الحكومات الأميركية المتعاقبة وأفرط ترامب في استعمالها.
3 ـ تطمح روسيا الى أن تكون صاحبة الموقع التفضيلي الأول في سورية على صعيد استثمار وإدارة الثروة النفطية والغازية وهي ثروة باتت كما هو متوقع ان تكون من كبريات الثروات في العالم خاصة في المنطقة البحرية الاقتصادية السورية الخالصة والتي يتمّ التحضير للبدء بالتنقيب والاستثمار فيها.
4 ـ ترى روسيا انّ كلّ المحاولات المباشرة او غير المباشرة العلنية او المخفية التي جرت لتجاوز الرئيس بشار الأسد والنظام السياسي القائم في سورية ووضعه خارج المسرح او تعديله جوهرياً بما يمسّ بوحدة البلاد وسيادتها او قرارها المستقلّ، كلها محاولات باءت بالفشل وتحققت من انّ سورية قد تنتظر الحلّ الذي يحفظ حقوقها سنوات طويلة ولديها المناعة والقدرة على الانتظار، ولكنها ليست من طبيعة مَن يتنازل او يستسلم، ونتيجة لهذا الأمر رأت روسيا انّ الانطلاق الى مرحلة ما بعد الحرب ومع الرئيس الأسد بالذات ستكون أجدى وفي مصلحة البلدين كسباً للوقت.
5 ـ تعتقد روسيا انّ حسم ملفي ادلب وشرقي الفرات ميدانياً قد يتأخر بعض الوقت ولا ترى سرعة كافية للبتّ بالملف السياسي في لجنة الدستور وترغب بعدم إضاعة الوقت وتخشى ان يسبقها آخرون في الملفات الاقتصادية، خاصة إيران والصين، لكلّ ذلك فتحت ملف الاقتصاد على مصراعيه أمام أجهزتها وشركاتها حتى لا يكون الإيراني والصيني متقدّماً عليها.
6 ـ أما عن الوظيفة العسكرية للزيارة، فإننا نعتقد أنها بقيت الى حدّ ما بعيدة عن يد هذا الوفد ولم يقاربها إلا في التأكيد على ما ينفذ وما يجري على صعيدها من قبل المعنيين في المستوى العسكري الذي يدير الملف منذ العام 2015 وبإشراف مباشر من الرئيس بوتين، إدارة تأخذ بالاعتبار العلاقة الروسية التركية في ميدان إدلب، كما والنظرة الروسية الى العامل الأميركي في شرقي الفرات. ففي الأول نعتقد انّ روسيا ستستمرّ في نهجها القائم بالتعاطي مع تركيا مع تحضير للمعركة الحاسمة عندما تتهيّأ الظروف المحلية والدولية لحسم الموضوع عسكرياً، أما في الشرق فإنها ستستمرّ في توسيع تحركها بشكل حذر ومدروس وهي تعتقد انّ الانسحاب الأميركي منها لن يكون بعيداً.
وفي الخلاصة تكون روسيا قد أكدت في هذه الزيارة انّ ثقتها بسورية وبمستقبلها عالية الى حدّ الطمأنينة التامة، وانّ العدوان عليها فشل بشكل مؤكد وانّ الملفات المتبقية للحسم تؤخر إعلان النصر ولكن لا تحدّ من أبعاده، وانّ التنافس على الاقتصاد السوري بدأ فعلياً وأسقط مقولة أميركا «سيف قيصر يمنع إعادة اعمار سورية“. أما بالنسبة للمشككين فانّ طريقة تنفيذ الزيارة وما رافقها تؤكد مرة أخرى انّ في سورية حكماُ يعرف كيف يبني الصداقات والتحالفات ويحفظ السيادة والقرار المستقلّ وكيف يتصرف بوفاء وعرفان جميل…
* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي
(البناء)