مئة عام على معركة ميسلون كمال خلف
وثائق وشهادات لأصحاب القرار والقادة تنشرها مؤسسة “وثيقة وطن” للتوثيق الشفهي والتّأريخ في سورية.. كتاب حافل بتفاصيل وحوارات لم تُعرف من قبل ووثائق ومُراسلات من الأرشيف الوطني الفرنسي.
تعرّفت إلى مؤسسة “وثيقة وطن” غير الحكومية خلال مؤتمرها التاسيسي قبل عامين تقرييا الذي صادف مرور مئة عام على وعد بلفور وبحضور نخب من اقطار عربية يعصب جمعها في دمشق منذ العام 2011.
وما يُثير الاهتمام في نشوء هذه المؤسسة عدّة عوامل أولها أنها تأسّست في خضم الحرب داخل سورية وفي ظل انعدام المؤسسات البحثية وضعف واقع دور النشر ومراكز الابحاث بسبب ظروف الحرب منذ 9 سنوات. وكذلك كونها مؤسسة تعنى بالتوثيق التاريخي والتوثيق المعاصر وأدخلت لأول في سورية العمل على التوثيق الشفهي سواء كان لتفاصيل مجريات الحرب اوالاحداث التاريخية التي مرت على سورية خلال العقود الماضية بتسجيل وقائع وتفاصيل بالصوت والصورة لمن عاصرها.
والعام الماضي كان جمهور عريض اجتمع في إحدى قاعات مكتبة الأسد الوطنية أمام نتاج حي لمناذج من هذا التوثيق عبر اشخاص يرون تفاصيل قصصهم ويوميات عاشوها في ظل الحرب اعطت صورة عميقة للحياة الاجتماعية والمعاناة الشعبية بعيدا عن العناوين العريضة ومسارات الاحداث من الناحية السياسية والعسكرية وهذا النتاج بلا شك سيكون مرجعا تاريخيا معتمدا في العقود القادمة لصورة الحياة الاجتماعية في ظل الحرب على سورية.
ويأتي الكتاب الجديد الصار عن” وثيقة وطن ” بعنوان “مئوية معركة ميسلون في ذكرى الشهيد البطل يوسف العظمة” نتاجا مختلفا بعد قرن من الزمن عن السرديات التاريخية التي سلطت الضوء على الوقائع العامة ومجريات الهام والمفصلي من الاحداث منذ انذار الجنرال الفرنسي غورو للملك فيصل وصولا الى احتلال سورية ووضعها تحت الانتداب الفرنسي المباشر ولاحقا تقسيمها الى 5 دويلات. ليجمع الكتاب الجديد تفاصيل اليوميات عبر مذكرات من عاصروها مضافا الى وثائق المعركة ومراسلاتها وما جاء عنها في الارشيف الوطني الفرنسي. ولاشك ان الكتاب يعد وثيقة تاريخية هامة ليس فقط لقدرته على جمع كل شارده وواردة حدثت في ذاك الوقت، ولكن كون معركة ميلسون وتقسيم سورية واعلان دولة لبنان الكبيرعام 1920 اسس لكل الازمات والنكبات خلال مئة عام ولازلنا حتى اليوم نعيش نتائج تلك الحقبة ونبحث عن مخارج للتخلص من تبعاتها.
ولعل ما أشارت إلى مقدمة الكتاب بقلم المستشارة السياسية والإعلامية للرئاسة السورية الدكتورة بثينة شعبان من تكرار الرئيس حافظ الأسد سيرة وزير الحربية وقائد معركة ميسلون يوسف العظمة مرارا امام زوّاره الأمريكيين جميس بيكر ووارن كرستفر والرئيس الامريكي بيل كلنتون عند زيارته دمشق عام 1994 خلال فترة مفاوضات السلام، وحرص الرئيس الراحل حافظ الاسد على الاحتفال بالذكرى السنوية لمعركة ميسلون دليلا وشاهدا تاريخيا على مفصلية هذه المرحلة في مسار التاريخ واهميتها التاريخية والراهنة لفهم مسار ومصير مستقبل سورية وامتداها الطبيعي.
اعتمد الكتاب “الوثيقة” على شهادات معاصرين وصانعي قرار في تلك المرحلة منها شهادة هامة من مذكرات الوزير في العهد الفيصلي “يوسف الحكيم” الصادر في بيروت عام 1966. كان يوسف الحكيم قبل ذلك رئيساً للجنة ترجمة القوانين من التركية إلى اللغة العربية بأمر من جمال باشا الحاكم العسكري العثماني لولاية سورية،
وبعد سُقوط الحكم العثاني اصبح عضواً في المؤتمر السوري العام الذي توج فيصل ملكاً على سورية يوم 8 آذار 1920. وفي أول جلسة لهذا المؤتمر، تم انتخاب يوسف الحكيم نائباً لرئيسه هاشم الأتاسي. وما نقله الحكيم من حوارات تفصيلية بين الملك فيصل ووزير الحربية يوسف العظمة قبل معركة التصدي للغزاة الفرنسيين في ميسلون تعكس مشاعر الشعب السوري ودوره الرئيس في صياغة القرارات المصيرية.
الشهادة الثانية المهمة جاءت خلاصة مذكرات حسن تحسين باشا الفقير احد ابرز القادة العسكريين في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الاولى وابن مدينة دمشق ومن اول المبايعيين للملك فيصل.
اجتمع وزير الحربية يوسف العظمة قبيل معركة ميلسون مع الفقير في حديقة المشيرية وقال له: “هل أنت مستعد للحرب يا تحسين؟” أجابه الفقير بنعم، وبدأت الترتيبات العسكرية لمعركة ميسلون، على طريق دمشق بيروت، الذي عُين الفقير قائداً عاماً لها. ينقل الفقير تفاصيل العرض العسكري للجيش السوري قبل المعركة والحوار الذي دار القنصل الفرنسي ويوسف بك العظمة والحوار الذي دار بينه وبين العظمة وبينه وبين الملك فيصل وتفاصيل المفاوضات مع الفرنسيين والخيانات التي سبقت المعركة وردة الفعل الشعبية الصاخبة في دمشق رفضا لقبول شروط الانذار الفرنسي بالاضافة الى تفاصيل دقيقة عن مجريات المعركة في ميلسون.
الشهادة الثالثة في الكتاب جاءت من مذكرات صبحي العمري وهو أحد الضباط السوريين في الجيش العثماني ممن التحقوا بالثورة العربية الكبرى في صيف عام 1920، تم نقله من ملاك الجيش إلى ملاك الدرك حيث كُلف بتدريب وتأهيل 150 خيالاً من فوج الدرك للمشاركة في معركة ميسلون ضد القوات الفرنسية. يشرح العمري خطط المعركة على الجانبين العربي والفرنسي وتوزع القوات على طول خط الجبهة. وفي الكتاب شهادة المؤرخ احسان هندي من كتابه بعنوان معركة ميسلون الصادر في دمشق عام 1967 ومذكرات المفكر ساطع الحصري تحت عنوان يوم ميسلون الصادرة في دمشق عام 1948.
ويحتوي الجزء الأخير من الكتاب على عدّة وثائق حول ميسلون من الأرشيف الوطني الفرنسي بوصفها معركة تاريخية مع مجموعة من المراسلات في تلك الفترة. مما يؤهل الكتاب الصادر عن المؤسسة الوليدة الواعدة لان يكون من اهم الاصدارات التاريخية المعاصرة لتلك الحقبة ومرجعا تاريخيا يضع الاجيال المقبلة امام حقيقة كاملة وموثقة بتفاصيلها من اصحاب القرار والمعاصرين لها في مرحلة أسّست لمراحل وحقب تاريخية مُعاصرة وأزمات مزمنة.
راي اليوم