مقالات مختارة

استراتيجية الحماية الاجتماعية: «عليكم خير»!: ليا القزي

يُظهر القيّمون على الدولة للناس في لبنان أنّهم بحاجة لهم في بناء اقتصاد حقيقي والتعامل معهم فعلاً كمواطنين. لا خدمات صحية، ولا ضمان اجتماعياً، لا تطوير للمدرسة الرسمية، والدعم للسلة الغذائية خادع، المافيات تتحكّم برقاب الناس والدولة تخضع لابتزاز المُحتكرين والمصرفيين والتجّار والمرابين. الحاجة أكثر من ضرورية لوجود استراتيجية حماية اجتماعية، ولكنها ليست أولوية

 

«ستُشكِّل الحكومة لجنة وزارية مُشتركة، مهمتها الرئيسية تنسيق الجهود الحكومية وإدارة تصميم استراتيجية اجتماعية عامة (…) إنّ تصميم الحكومة على إعداد استراتيجية اجتماعية شاملة، يُشكّل خطوة عملية أولى في تحسين المؤشرات الاجتماعية». ورد ذلك في برنامج عمل الحكومة المُقدّم إلى مؤتمر «باريس 3» (مؤتمر دولي لـ«دعم لبنان» عُقد سنة 2007). 13 سنة مرّت مذ «صمّمت» حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على القيام بأبسط واجباتها كـ«دولة»، فأتت النتيجة مزيداً من ارتفاع مستويات الفقر والجوع، موت مواطنين على أبواب المستشفيات لعدم امتلاكهم ثمن «الخدمة»، التسرّب المدرسي… إلخ. لا حكومة السنيورة، ولا كلّ الحكومات التي شُكّلت بعدها، رفعت إلى رأس لائحة أولوياتها وضع استراتيجية للحماية الاجتماعية تقوم فلسفتها على توفير الخدمات الرئيسية للمواطنين، إما مجاناً أو بتكاليف قليلة جدّاً. في حكومة الرئيس سعد الحريري الأخيرة، أعادت وزارة الشؤون الاجتماعية «عَقد العزم» على إنتاج استراتيجية حماية اجتماعية، وفازت إحدى الشركات الخاصة بمُناقصة وضع الخطّة، لتنطلق انتفاضة «17 تشرين» ويستقيل الحريري، ويتأخّر العمل. ومع تفشّي وباء «كورونا»، حرّكت حكومة الرئيس حسّان دياب الملفّ، ووُضع شهر آب (الجاري) موعداً لإعلان مسودة الاستراتيجية. آب يُشارف على نهايته، والخطة لم تُعلن بعد. لم تكن استقالة دياب هي العائق، بل الأساس هو بُطء العمل وعدم توافر كلّ الداتا المطلوبة.

طيلة سنوات، تُرك المواطنون فريسةً لنموذج فاشل، من دون أن يسعى أي من المعنيين إلى توفير الحماية لهم، أو خلق رابط انتماء مع الدولة. رغم ذلك، «يُفاجأ» المسؤولون حين لا يلقى تعويلهم على «وعي المُجتمع» تجاوباً شعبياً، ولا يتم الالتزام بتوصياتهم وإجراءاتهم. مستشفيات خاصة تراكم على مدى سنوات أرباحاً طائلة، ثمّ تنأى بنفسها عن توفير العناية في زمن «كورونا». مجلس نواب يجتمع ليقرّ مساعدة لكارتيل المدارس الخاصة الغنية، مُهملاً المدرسة الرسمية. المصارف تنهب الأموال، والمُشرعون يستضيفونها «على فنجان قهوة» لاستشارتها في الإجراءات المُناسبة. التجّار يتلاعبون بأسعار المواد الغذائية والمازوت والبنزين ويُخبئونها، من دون حساب. يمرّ سكّان لبنان، وهم عُزّلٌ، بواحدة من أصعب المراحل في التاريخ المُعاصر، وعوض أن تُشكّل الاستراتيجية الحمائية واحدة من أولويات المواجهة الحالية، يُرمى بها في الأدراج.

يقول المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات، سامي عطالله، إنّ الورقة التي نوقشت في «باريس 3» تضمّنت «شرحاً بالتفاصيل المُملة للفصل المُتعلق بالضرائب والقطاع المالي. في المقابل، لم يُكتب عن موضوع استراتيجية الحماية الاجتماعية أكثر من مقطعين. يدلّ ذلك على أنّ الموضوع لم يكن أولوية، بل أُدرج فقط مُسايرةً للمانحين». ولماذا لا يكون جدّياً؟ «لأنّه يتم التعاطي مع التعليم والصحة والتغذية على أنّها جزءٌ من الزبائنية السياسية لا حقاً من حقوق الناس. هل اهتم أحد من الدولة أين سيسكن المُتضررون من الانفجار، وما نوعية الخدمات التي يحتاجونها؟ فيما هناك من وصلته مساعدات لا يحتاج إليها». يقود ذلك إلى المُربّع الأول، إلى أنّ «الدولة لا يهمها أن تحمي مواطنيها، بل أن تكون الحماية عبر الزعيم، هو مفتاح التوظيف والأكل والدخول إلى المستشفى».

يؤكّد المدير العام لوزارة الشؤون الاجتماعية القاضي عبدالله أحمد أنّ «الحاجة مُلحّة لوضع استراتيجية كان يجب أن تُبتّ قبل عشرين عاماً». لماذا تتأخرون في العمل إذاً؟ يُجيب بأنّه «رغم تحديد الحكومة شهر آب موعداً لتقديم المسودة، ولكن منذ البداية كان موقفي أنّنا نحتاج إلى سنة، لأنّنا لا نملك شيئاً من المعلومات والبيانات». وضع استراتيجية اجتماعية يعني «أنّنا نُريد تقديم الحماية للمواطن انطلاقاً من مقاربة حقوقية للخدمات التي يجب أن يحصل عليها، وتحديد الأولويات». يقول أحمد إنّه «لا يُمكن للحكومة أن تُحدّد أولوياتها من دون اكتمال المعطيات. مثلاً، ما هو المبلغ الذي يُدفع على الطبابة؟ وكم جهة ضامنة موجودة؟». هذا الشقّ من العمل لم يُنجز بعد، فيما أضاع العاملون على الملفّ قرابة شهرين في تحديد «تعريف الحماية الاجتماعية».

عبد الله أحمد أطلق العمل على الاستراتيجية في 2018، ويومها «لم يُبدِ كلّ من الاسكوا ومنظمة العمل الدولية (عادت وانضمت) رغبة في تمويل المشروع، على العكس من منظمة اليونيسف التي عرضت خدماتها، رغم أنّ عملها يتركّز أكثر في مجال شبكة الأمان الاجتماعية وليس وضع استراتيجية شاملة». أُجريت مناقصة لتلزيم العمل على المشروع، ففازت شركة «Beyond Reform and Development». يُبرّر أحمد اللجوء إلى القطاع الخاص بـ«أنّنا في حاجة إلى جمع داتا وأبحاث في السوق، وجهد ووقت، لا قدرة لنا أو لدائرة الإحصاء المركزي على توفيرها. ولكن الحكومة هي التي ستُحدّد أولوياتها وكتابة الخطة ستكون مشتركة بين أصحاب الاختصاص وممثلين عن الإدارة الرسمية».

يتم التعامل مع قطاعات التعليم والصحة والتغذية كجزء من الزبائنية السياسية

يوضح مُدير «Beyond Reform and Development»، جيلبير ضومط أنّ العمل – حتى الآن – شمل إجراء مسح للواقع، ووضع رؤية وتعريف للاستراتيجية، وتمّ تشكيل لجان عمل عدّة تضم ممثلين عن بعض الوزارات وخبراء ومنظمات اجتماعية معنية. وقد «انتهينا من المسح وأصبحت لدينا داتا وقدّمنا تقريراً». ما هو ناقص «وصعب، هو الجزء المالي، لأنّه مُتشابك»، شارحاً كيف أنّ الكلفة الصحية مثلاً تُغطيها جهات عدّة: وزارة الصحة، الشؤون الاجتماعية، الضمان الاجتماعي… جمع هذه المعلومات، في كلّ القطاعات التي ستشملها «الاستراتيجية»، لم يحصل بعد. بدأ العمل منذ قرابة سنة، تبدّل خلالها الكثير من المؤشرات». ألا يؤثّر ذلك على العمل؟ يُجيب ضومط بأنّ «هذا العمل لا ينتهي. المفروض أن يتمّ تبنّي الاستراتيجية، وكلّ فترة تُعيد الحكومة النظر بها وإدخال تعديلات إن لزُم».

مُدير الأبحاث في «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الأميركية – بيروت، ياسين ناصر، شارك في اجتماعات وضع «الاستراتيجية». وأوضح لـ«الأخبار» أنّ العمل كان يشمل قطاعات: السكن، الصحة، التعليم، الغذاء. وكان يدور نقاش حول ما إذا كان يجب توزيع المساعدات النقدية المُباشرة أم لا. ينطلق ياسين من هذه النقطة، ليُشير إلى أهمية وجود استراتيجية في الوضع الراهن، «وأن يتمّ تأمين الحقوق الأساسية للناس ليُصبحوا محميين ويُنزع عبء كبير عن موازنة الأسر». هذا الأمر أنجح من توزيع مساعدات نقدية، «لنفترض أنّنا وزّعنا 400 ألف ليرة أول وثاني شهر، وبعدها ماذا نفعل؟ حتى السلة الغذائية ليست حلّاً! فضلاً عن أنّ الخوف من توزيع المساعدات النقدية يكمن في أنّ البنك المركزي سيزيد من طبع العملة، ما يعني زيادة التضخم»، وبالتالي فقدان المساعدة المالية لقيمتها. يُمكن بحسب ناصر «تخصيص المساعدات النقدية للأكثر فقراً»، لافتاً إلى أنّ استراتيجية الحماية الاجتماعية لا يُمكن أن تتغافل عن أنّ «ربع السكّان أجانب، بين عاملين ولاجئين، هؤلاء خارج نظام الخدمات ولا يُمكن أن لا يتم ذكرهم».

تواطؤ الدولة ضدّ الحماية الاجتماعية

في كوبا، المُحاصرة منذ 58 عاماً، بلغ الإنفاق الحكومي سنة 2018 نحو 30.05% من الناتج المحلي الإجمالي، حين كان المُعدّل العالمي لـ159 بلداً يبلغ 16.41%. وصف برنامج الغذاء العالمي كوبا، سنة 2019، بأنّها «واحدة من الأكثر نجاحاً في تحقيق الأهداف الإنمائية»، مُستخدمةً «الضرائب التصاعدية، وتركيز الإنفاق على الخدمات الاجتماعية المجانية والشاملة»، للحدّ من اللامساواة على صعيد الدخل القومي. وتشمل الاستراتيجية الاجتماعية: سلة غذائية شهرية لجميع السكان، برامج التغذية المدرسية، الرعاية الصحية شبه المجانية، التعليم المجاني في كلّ مستوياته.

نجحت كوبا في برامج الحماية الاجتماعية، بعد أن وظّفت كلّ مواردها لتحقيق الهدف. فلماذا لم يستطع «سويسرا الشرق» – لبنان، تقديم هذه الخدمات؟ هنا، قرّرت الحكومات المتعاقبة خدمة الدين العام من أموال الناس عوض أن يكون الدين في خدمة تطوير المُجتمع، ولم تضع نظاماً ضريبياً عادلاً، وعزّزت الاحتكارات وتمدّد القطاع الخاص حتى بات مصدر الخدمات – الحقّ للمواطنين، وثبّتت سياسات مالية ونقدية تعمد إلى تركيز ثروة الأكثرية بيد أقلية، ثمّ اختارت المزيد من التقشّف في الإنفاق. هل تفتقر الدولة إلى الموارد التمويلية لوضع استراتيجية حماية؟ يُجيب المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات، سامي عطالله، بأنّ «الدولة هي من قرّرت أن لا تكون لديها موارد، حين قرّرت أن لا تفرض ضرائب على الأكثر ثراءً، وأن لا تُفعّل الجباية وتترك المرافق العامة عرضة للسرقة». يستشهد عطالله بالباحث كمال حمدان، «الذي توصّل قبل عشر سنوات إلى أنّ مُجرّد فرض ضريبة على الأرباح العقارية، كان سيؤمّن تغطية صحية شاملة لكلّ المواطنين».

(الاخبار)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى