محنة لبنان ومعادلة أينشتاين!: د. عدنان منصور _
يقول أينشتاين: «لا يمكن حلّ مشكلة مع الذين أوجدوها.»
هذه المقولة تنطبق على واقع حال اللبنانيين مع زعماء الطبقة السياسية التي حكمتهم منذ عقود. إذ انّ الشعب اللبناني الذي يواجه أسوأ أزمة لم يشهد مثيلاً لها منذ استقلاله عام 1943، معيشية ومالية وخدمية واجتماعية قاتلة، وينتظر ان يحلها نيابة عنه من أوجدها وتسبّب بها وكان وراءها، عندها سيكون أمام مشكلتين، لأنّ المسؤول الفاسد، المسبّب والفاعل الذي كان العلة الرئيسة وراء نشوء الأزمة وتدهور الأوضاع، وانهيار البلد والمؤسسات، وخنق المواطن وسحقه في رزقه وعمله ومعيشته وماله، لن يقبل أبداً أن يضع نفسه في مكان يقوم فيه بإجراء الإصلاحات على حساب نفسه، وتجاوزاته، ومكتسباته، وصفقاته وفساده، أو أن يقبل بقضاء عادل رادع، ويرضى بالمحاسبة والنقد الذاتي، أو قبوله الخضوع للمحاكمة، مع شركائه الذين أوصلوا البلد الى الحالة المزرية التي وصل إليها.
فأيّ تغيير وإصلاح، وأيّ دولة قادرة مقتدرة يتطلع اليها وينتظرها الشعب المسحوق !
كان الله بعون لبنان واللبنانيين، الذين قال عنهم يوما د. وليم مك لور طومسون D.William McClure Thomson الانجيلي الأميركي، الذي جاء الى بيروت عام 1833، وكان تاسع المبشرين الانجيليين الذين قدموا من أميركا الى بلادنا، وأحد مؤسّسي الكلية الإنجيلية في بيروت، التي أصبحت لاحقاً الجامعة الاميركية. تومسون مكث في بلادنا لأكثر من خمسة وثلاثين سنة، يتنقل في بلاد الشام، بين فلسطين ولبنان وسورية، قبل ان يؤلف في ما بعد، كتابه المعنون بالانكليزية: The book and the land، «الارض والكتاب” عام 1870، اي قبل مائة وخمسين عاماً، حيث يتحدث في الفصل المتعلق بلبنان، عن عدد سكانه البالغ اربعماية الف نسمة، والموزعين على ستمائة بلدة وقرية، تعيش فيها مختلف الأديان والطوائف، وتمارس شعائرها المختلفة، وهي مجاورة لبعضها البعض. إلا انّ المواطنين غير مندمجين داخل مجتمع متجانس، ولا يكنّون لبعضهم البعض المشاعر الأخوية… لا يوجد رابط مشترك للوحدة… فالمجتمع لا يرتكز على شرائح منفتحة في ما بينها، كي تستطيع العمل لصالح الجميع، وإنما يوجد أعداد لا حدود لها من انقسامات وتصدّعات وحواجز يتمسك بها عامة الناس المرتبكة والبائسة، التي تشكل حجر الزاوية للعداوة في ما بينها… ويكمل طومسون ليقول: وحدها الروح القدس تستطيع بسط النظام كنتيجة لهذا اللغط، وتحويل المكونات المتضاربة الى سلام ووئام… لا يوجد دولة في العالم لديها تعددية مكونات معادية كحالة لبنان، وهنا يكمن العائق الأكبر أمام أيّ تقدّم وتطوير عام لوضعهم، وآفاقهم. حيث لا يمكنهم أبداً، تكوين شعب واحد موحد. ولا يمكنهم ان يتوحدوا وراء أيّ غاية دينية او سياسية. لذلك سيظلون ضعفاء، غير قادرين على حكم أنفسهم، ومعرّضين للغزوات والقمع من قبل الأجانب… ولطالما كان ولا يزال على ما هو عليه، سيبقى شعباً منقسماً، مهمّشاً في الحضيض !!
اليوم ونحن أمام مشهد البحث عن حكومة جديدة ينتظرها اللبنانيون بفارغ صبر، تنشلهم من المأزق الصعب،
نتساءل: أيّ روح هي هذه الروح القدس التي يتحدّث عنها تومسون لتحلّ على حكومة الخلاص القادمة، وتنقذ اللبنانيين من المستنقع الذي أغرقهم فيه الناهبون الفاسدون! وعلى يد من، سيتمّ إنقاذ الوطن والشعب على السواء؟! هل ستأتي هذه الروح القدس اليوم، من باريس أو واشنطن، أو الرياض، أو موسكو أو غيرها!
وهل ستكون مقولة ماك لور طومسون قدراً لا مناص منه للبنان واللبنانيين في إبقاء الوضع على ما هو عليه، وترك اللبنانيين في البئر العميق الذي حفرته لهم، عصابة الطبقة السياسية التي حكمت لبنان، وتستنسخ نفسها منذ عقود وحتى اليوم، بوجوه مسؤولين وسياسيين، وأحزاب وأشكال وألوان مختلفة، بينما القناع واحد على وجهها البشع، هو هو، لم يتغيّر ولم يتبدّل؟!
ألم يحن الوقت بعد على اللبنانيين، ان يفرضوا إرادتهم،
ويتوحدوا، ويطيحوا نهائياً بدكتاتورية أسوء طبقة سياسية، مالية احتكارية، طائفية، رجعية، مستبدة، قلّ ما شهد العالم مثيلا لها، ما يجعلها تتصدّر واجهة الفساد دون منازع!!
هل سيأخذ اللبنانيون بمقولة اينشتاين ويتصرفون على أساسها، أم أنهم سيأخذون بمعادلة اللصوص الفاسدين، والاعتماد عليهم مجدّداً، التي يعجز عن حلها اينشتاين وكلّ من سار على دربه!!
وما الذي يتبقى بعد ذلك من رصيد لوطن معذب، يغيب عن زعمائه وحكامه الضمير، والأخلاق، والكرامة، ونظافة الكف، وعزة النفس، واحترام الذات، يسرح ويمرح فيه أرباب طبقة هي من أفسد الطبقات التي عانى منها اللبنانيون.
فهل هناك في لبنان من أينشتاين سياسي منقذ، يساعدنا بمعادلته على خروج اللبنانيين من الجحيم الذي هم فيه! وإذا ما قدّر للبنان واللبنانيين ان يكون بينهم أينشتاين الإنقاذ، ـ هذا إنْ وجد ـ فمن هو؟! ومتى سيطلّ علينا، ليخرجنا من المستنقع الذي نحن فيه؟! وهل ستتركه الطبقة المهيمنة الحاكمة، ليقوم بدوره المطلوب قبل ان يلقى مصيره وحتفه على يديها؟
منذ مائة وخمسين عاماً، وحتى اليوم تغيّر وجه العالم، وللأسف لم يتغيّر وجه اللبنانيين رغم كلّ المساحيق التي روّجت لها الطبقة الحاكمة، واعتمدتها منذ إنشاء لبنان الكبير قبل قرن من الزمن !
فلا ينتظر اللبنانيون مطلقاً على البيدر، حصاد الإصلاح على أيدي الذين زرعوا الفساد !
الإصلاح لا يتمّ إلا على أيدي اللبنانيين، ولا يتمّ أبداً من الخارج، ولا على أيدي زارعي الفساد. فلا ينتظر المواطن منهم أيّ خطوة لتحقيق الإصلاح، ووقفهم النهب المنظم للبلاد. إنّ تحقيق الإصلاح الجذري، والقضاء على الطبقة الفاسدة بكلّ أطيافها، وفروعها، ورموزها، وحماتها، وبناء الدولة المدنية العادلة، لا يمكن لها أن تتمّ إلا بوحدة الشعب، وبالهدف الواحد، خارج الحسابات الطائفية الرجعية، المشبعة بالكراهية، والتعصّب والانعزال، وإلا سيبقى اللبنانيون على ما كانوا عليه منذ مائة وخمسين عاماً، عندما حكم عليهم طومسون، حكمه النهائي بحقهم عندما قال: هكذا هم وهكذا سيبقون!
حان الوقت كي يطوي اللبنانيون مقولة طومسون الى الأبد، ويصيغوا في ما بينهم لبناناً جديداً قائماً على الحق والعدل وكرامة الإنسان، ويقضي نهائياً على نظام طائفي متخلف، وعلى طغمة طبقة تجسّد قمة الفساد السياسي والمالي، والإعلامي والمؤسساتي والوظيفي، وتشكل أخطبوط الاحتكارات على أنواعها الجاثمة على صدور اللبنانيين، منذ أن صاغ الانتداب الفرنسي للبنان، منذ مائة عام، نظاماً طائفياً، هجيناً، قبيحاً، فاشلاً، لا زلنا نعاني حتى اليوم من تداعياته المدمّرة على لبنان وشعبه، وندفع الثمن الباهظ على تركته، لا سيما بعد أن أصبح هذا النظام من ذوي الاحتياجات الخاصة!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق
(البناء)