تضييع الوقت وهدر الفرص
غالب قنديل
يخلص العقل السياسي اللبناني لعاداته القديمة بإدمان المسكنات والمخارج السهلة من الأزمات حتى لو كانت حلولا مؤقتة لا تلبث ان تخلي المكان للمأزق فلا ينفك الزعماء والقادة عن ممارسة عادتهم المفضلة في شراء الوقت واستبعاد تحدي التفكير الجديد والتماس الحلول الجذرية والخيارات الممكنة من خارج المألوف والمعتاد وهم يتنفسون الصعداء كلما استطاعوا دفن فكرة جديدة وخنق الداعين إليها أو كتم أصواتهم .
أولا: ينشغل الرأي العام والقوى السياسية بتداول التكهنات عن الزيارة المقبلة للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون المفترضة بعد أيام وثمة من يتخيل فرصة لتحريك رزمة القروض الموعودة في مؤتمر سيدر عل فيها الترياق الشافي من كارثة اقتصادية ومالية داهمة وقد نجحت المبادرة الفرنسية في إضعاف وهج فكرة التوجه إلى الشرق التي طرحت في أواخر ولاية حكومة الرئيس السابق حسان دياب التي ترددت فعليا في ملاقاة الفرص السانحة لإنقاذ البلد من الانهيار أو الحد من وطاة الكارثة المالية والاقتصادية ويفترض الاعتراف بفرصة ضائعة بعد تأخير الاستجابة للعروض التي تلقاها لبنان من الصين وروسيا والعراق وإيران على اكثر من محور بينما ترددت الحكومة الراحلة في طرق أبواب دمشق لإدارة نقاش أخوي حول فرص التعاون والعمل المشترك رغم المؤشرات الإيجابية السورية وبدا الرئيس السابق للحكومة ومعه الفريق السياسي الداعم لحكومته وكانه ينتظر السماح الغربي ليرمم العلاقة بين البلدين التوأمين.
ثانيا: يقتضي الخروج من الأزمة الخانقة شجاعة وجراة في التخلي عن بديهيات النموذج الريعي الاستهلاكي التابع الذي تتشبث به بعض القوى الراسخة في النظام السياسي القائم منذ اتفاق الطائف ومن الواضح للغاية ان الانخراط الفرنسي في مبادرة إسعافية جاء بعد نجاح العقوبات الضارية في دفع النموذج اللبناني نحو الانهيار الكبير وجاءت “سانحة” انفجار مرفأ بيروت لتنعش آمال القوى النافذة اقتصاديا وسياسيا بضخ جرعات جديدة من القروض والمساعدات من خلال إحياء سلة سيدر وبشروط تقترن بفرض رقابة صارمة على الإدارة والمؤسسات اللبنانية وقد ظهرت في خارطة توزيع الهبات والمساعدات التي تدفقت بعد الانفجار المدمر صورة تتوضح مع الوقت لنخبة من الوكلاء الجدد الذين يعتمدهم الغرب في التعامل مع الوضع اللبناني وهي تضم عشرات الجمعيات والشبكات التي ترفع يافطات المساعدة الإنسانية وقد سبق ان أشرفت فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي مجتمعا على عملها في ملف النازحين السوريين الذين أشرفت على رعايتهم في لبنان وما تزال.
ثالثا “نخبة” السيد ماكرون المزعومة من اللبنانيين الموجودين بالآلاف في منظمات المساعدة والإيواء التي تسلمت كامل ملف النزوح السوري في لبنان ليست منزهة عن الفساد الذي يكرر الرئيس ما كرون ذكره امام المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم وحاضر أمامهم عن الحوكمة الرشيدة التي تدرج فيها من خلال شركة غولدمان ساكس المالية التي تلعب أدورا غير ملائكية في المجالين الاقتصادي والسياسي وللأسف كرر بعض المسؤولين اللبنانيين كلمات الضيف الفرنسي وبلعوا بريقهم ثم سارعوا لإبداء تمسكهم بالإصلاح الذي طالبهم به وهو القادم بوعد المساعدة لم يفته التحدث عن صفقة مغرية يتطلع إليها لحساب شركات بلاده وهي إعادة بناء مرفأ بيروت الذي دمره الانفجار وقبل ان تناقش أي مؤسسة دستورية لبنانية هذا الملف او تتخذ قرارا بشانه وبالطبع لم يعلن الرئيس ماكرون عن هبة فرنسية للبنان بقيمة إعمار المرفأ فهو ألمح إلى صفقة ستجدها الشركات الفرنسية مغرية وهي تتلهف إلى سواها كذلك علها تجد مجالا للحد من اختناق الركود الكبير الذي يطبق على قطاع الأعمال الأوروبي عموما وتضع قدما جديدة على المتوسط بعد خيبتها الليبية ففي اندية البيزنس الفرنسية التي قدم منها الرئيس ماكرون ملفات عديدة لشبكات الكهرباء والاتصالات اللبنانية ولشبكات الطرق كذلك وفواتير الأعمال ستحتسب من سلة قروض مقيدة بشدة بشروط سيرتبها خبراء صندوق النقد الدولي.
رابعا الخيار البديل والمجدي لتخطي الاختناق هو الاعتماد على مبدئي التخطيط الوطني لإعادة البناء الاقتصادي واعتماد شراكات متنوعة وجديدة انطلاقا من دراسة عروض الصين وايران والعراق والفرص الممكنة مع سورية وهذا ما أقصي تعسفا عن النقاش اللبناني لدوافع متعددة بعضها سياسي يعكس انسياقا خلف منظومة الهيمنة واستجابة عمياء للمشيئة الأميركية والغربية ويضاف إليه حجم الارتهان المصلحي للغرب ومنظومة الهيمنة في البنى السياسية اللبنانية.
العروض الشرقية ما تزال مغلقة ولم تعرض بتفاصيلها وشروطها التنفيذية امام اللبنانيين والعناوين التي أفصح عنها بعض المسؤولين تنطوي على فرص سخية وكبيرة لا ينبغي تفويتها كالعرضين الإيراني والعراقي حول تأمين حاجة لبنان من المشتقات النفطية والعرض الصيني المتصل بالكهرباء والاوتوسترادات ومياه الصرف الصحي والأهم من ذلك هو قبول الدفع بالليرة اللبنانية والاستيفاء طويل الأجل من العائدات المحققة وهو ما لم يحمله أي موفد اميركي او أوروبي إلى لبنان لاسابقا ولا راهنا وبينما يعلك اللبنانيون الرهانات والمعلومات بضيع المزيد من الوقت ويتواصل النزيف الخطير.