لبنان في صراع الخيارات
غالب قنديل
يدور لبنان في حلقة مفرغة من الاستنزاف والعبث والعجز السياسي والتأزم الاقتصادي المرهق وسط حالة مستعصية من العقم الفكري والثقافي والتخبط السياسي في غمار ازمة نظام عاجز متعددة الوجوه والمحاور وتبدو جميع الجبهات هلامية رخوة باستثناء ثبات منظومة الحماية والردع التي توفرها المقاومة بتراكم قدراتها وإنجازاتها ومعادلاتها التي وفرت الحماية الفعلية من العدوان الصهيوني وحاصرت التهديد الإرهابي التكفيري وردعت الحلف الدولي الإقليمي الذي يقف خلفه.
أولا تنفتح شهية التدخل الغربي من جديد في البلد الذي أنتج مقاومة أنجزت تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني ولم تستطع فيه القوى الحليفة للمقاومة بلورة جبهة وطنية للتحرر من الهيمنة وإعادة البناء السياسي والاقتصادي وضمات الاستقرار والتنمية المنتجة في البلد المنهك والمثقل بالأزمات والكوارث.
آخر الضربات كان انفجار المرفأ العريق الذي كان فيما مضى اهم مركز للترانزيت في حوض المتوسط وقد تخطاه الكثير من الموانئ المجاورة في حجم القدرة والحركة بعدما كان لزمان مضى يخدم الحركة التجارية للعديد من البلدان العربية ولاسيما العراق والخليج ويكمن السر المزمن لهذا الاهتمام الغربي بموقع لبنان الجغرافي شمالي فلسطين المحتلة وغربي سورية وقبل كل شيء لكونه بلد المقاومة التي استطاعت تحرير الأرض بالقوة وفرض معادلات الردع والحماية رغم الدعم غير المحدود الذي قدمه الغرب للكيان الصهيوني بما في ذلك الحكومة الفرنسية المصابة مؤخرا بحمى العناق المفرط وبسيلان خطب عاطفية تسودها المبالغة نحو اللبنانيين الذين يرتهن بعضهم ثقافيا ومصلحيا للغرب وللفرنكوفونية قبل سواها على الرغم من الزحف الأنكلوسكسوني واللكنة الأميركية الطاغية في صالونات بيروت البرجوازية وصالاتها المالية والمصرفية المصابة بالركود.
ثانيا نشأت في لبنان عبر عقود شرائح رأسمالية كبيرة ومتوسطة مرتهنة سياسيا وثقافيا إلى الغرب وهي تطمح إلى محاكاة نمط العيش الاستهلاكي الأجنبي بجميع مظاهره وتنظر بروح استلابها الغربي إلى جميع الظواهر في مجتمعها سياسية كانت أم معيشية أم ثقافية وقد أظهر هؤلاء بهجة غير مسبوقة بعودة الاهتمام الفرنسي بلبنان بعد سنوات من العزوف ولم يتساءلوا عن توقيت اللهفة المستجدة والزيارات المتكررة ولا عن علاقتها بحاجة “إسرائيل” الملحة إلى وساطة تضمن ترتيبات معينة مع لبنان تفتح لها درب استخراج النفط والغاز قرب الشاطئ الفلسطيني المحتل بأقل مخاطرة ممكنة على صعيد اختبارات القوة مع المقاومة وقوتها الرادعة.
هذه الشرائح نفسها أصابها الاختناق الشديد بنتيجة هلاك النموذج الاقتصادي الريعي التابع الذي تصدع مؤخرا وهو ما أفقدها نمط الاستهلاك والعيش المرفه الذي اعتادت عليه وقد زاد الطينة بلة تهتك الهيكل المصرفي الضخم الذي اعتاش على ريعية المضاربة الربوية لسنوات في بلد اعتاش خلال العقدين الأخيرين على المضاربة المالية والعقارية والفوائد الربوية المتضخمة في ظل تقلص الفروع الإنتاجية وضمورها الخطير وفي نظر المستلبين بنماذج الاستهلاك الغربي تمثل الحركة الدولية بارقة امل بتجديد الانتعاش من خلال المزيد من القروض عبر المساعدات التي ليست في واقعها غير أدوات استثمار واسترهان سياسي.
ثالثا اللهفة الغربية والفرنسية خصوصا إضافة إلى محاولة تأكيد وصيانة النفوذ التقليدي الذي يريد الرئيس ماكرون إحياءه بمناسبة مئوية اعلان الكيان تحت رعاية الانتداب الفرنسي هي تعبير عن رغبة واضحة في الاشتراك بسباق داهم مع التحولات والاحتمالات في محيط لبنان الجيوسياسي والاقتصادي فمن جهة تتسارع خطوات الدولة الوطنية السورية للتغلب على الحرب التي تستهدفها منذ حوالي عشرة اعوام وحيث يعني تعافيها تغييرا مهما في البيئة الاستراتيجية باسترجاع قدراتها وإمكاناتها إلى جانب تعاظم الدور الإقليمي الإيراني وتوسعه في تناغم واضح مع الحضور الاقتصادي والسياسي والعسكري لكل من روسيا والصين في حوض المتوسط بما يعني تحولا استراتيجيا في محيط لبنان الإقليمي يجد لها حليفا مباشرا في المقاومة التي يحيط بها داخليا حلف سياسي محلي تضاءلت إزاءه فاعلية وقوة الأطراف اللبنانية المرتبطة بالغرب وهذه اللوحة بتوازناتها وامكاناتها واحتمالاتها تمثل مصدرا لقلق غربي من إفلات موقع تقليدي كانت له ادوار مهمة في النشاط السياسي والاستخباراتي الغربي منذ قرون وهو يقع راهنا على خرائط الصراع العالمي المتعلقة بخطوط نقل النفط والغاز والشراكات الإقليمية الكبرى التي يحركها التنافس الأميركي الغربي مع القوة الصينية وحليفها الروسي وهذا هو بيت القصيد في سباق العواصم الكبرى إلى بيروت وحيث المعضلة اللبنانية التي تفوت الفرصة الضخمة بالتوجه شرقا هي غياب جبهة وطنية ببرنامج يلاقي الفرصة مع ميل البعض لتجديد العلاقة السهلة مع الغرب الأوروبي بقوة العادة وقد خنقت مؤشرات التوجه شرقا التي اقترحها قائد المقاومة وتعطلت قبل استقالة الحكومة السابقة وظلت في البدايات غير المكتملة.