بذور الأمل بين الركام فلا تسحقوها
غالب قنديل
ضجت شوارع منطقة المرفأ والأحياء المنكوبة في محيطها بآلاف الصبايا والشباب الذين حملوا المكانس والمعاول لإزالة آثار الزلزال الذي هز العاصمة واهلها وكانت بعده انتفاضة حياة ضد الخراب وهبة عفوية وشهادة إنتماء لا تعرف مفردات الفرقة والعصبيات التي تسم شتى التفاصيل في يوميات اللبنانيين وبينما ظن المفجوعون ان ما جرى قد اغتال ميناء بيروت خرج نقيب عمال المرفأ ورئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر يعلن ان العمال يعيدون تشغيل الرافعات وان بضعة أيام من شغلهم الموصول ستعيد تأهيل الأرصفة السليمة وتؤمن البدائل وهي بشارة حياة أقوى من ضجة العويل والنحيب الذي طغى على خطب السياسة.
يكتمل المشهد الواعد بشباب في عمر الزهور لا يجدون ما يربطهم بكل ما هو مألوف في عالم السياسة الشائع ولا في وسائل الإعلام فهم يتابعون الأحداث بوسائلهم الخاصة فلا يشاهدون التلفزيون إلا حين يختارون المتابعة ولا يستمعون إلى الراديو ولا تعنيهم مقدمات نشرات الأخبار المكرس بعضها لبث السموم وللردح والتحريض البالغ حد الشتائم المبتذلة وهم يبحثون عن المعلومات في الشبكة العنكبوتية ويكونون انطباعاتهم ويتأثرون ويتفاعلون على هواهم بما ينشر في الداخل والخارج ويجمعون على اللاثقة بكل ما هو قائم على الطلاق مع الناس وبفطرتهم ينظرون بعين الشك لكل كلام وموقف او فعل سياسي فلا تشغل معظمهم متابعة البرامج المكرسة للشتائم وللفجور السياسي.
تلك الآلاف من شباب بيروت التي خرجت إلى الشوارع بمكانسها كان همها منصبا على إيجاد المعاول والرفوش لتنظيف الأحياء المنكوبة وقد تحركوا كتفا على كتف لا تشغلهم أسئلة الهوية المفردة ولا هواجس الجهات والطوائف فهم جميعا لبنانيات ولبنانيون لم يؤطرهم أحد ولكن نكبتهم معا خضة الانفجار واحرقهم مشهد الضحايا والمنكوبين وادركوا عجز المؤسسات عن استيعاب كارثة كبيرة تفوق التوقعات ولم يتحضر لها أو لأقل منها أي جهاز وزاري او بلدي رغم ما انفق من الولائم والمصاريف غير المجدية على ندوات ومؤتمرات راوحت في فضاء المدينة وعلى أشرطة الأخبار عن مواجهة الكوارث وتبخرت بكل تفاصيلها ومتحدثيها لما حلت كارثة فعلية شاملة هزت عاصمة الوطن.
هؤلاء الشباب يعيشون هواجس اتمام الدراسة وفرص العمل في وطنهم وغالبيتهم تقاوم فكرة السفر إلى الخارج رغم كل المغريات وهم جاهروا بانتمائهم الوطني المتجذر الذي فعل النظام البائس كل ما ينبغي لدفعهم في متاهة الكفر به والتنكر له وبعضهم يقاوم عروض الهجرة ويتمسك بالبقاء ويغرس الأظافر في التراب في فعل انتماء ثابت وقد اطبق القبضة على عصا المكنسة او ما طالت يده من ادوات إسعاف المناطق التي طالها الزلزال في فعل انتماء لايتزعزع رغم كل الخواء الرهيب الذي تضج به الهياكل السياسية الهرمة المنصرفة إلى ألعاب الحصص ونزاعات التقاسم والصفقات.
نعرف ان العديد من صيادي المواسم قد لايجدون في هبة الشباب لإسعاف بيروت سوى فرصة استثمار ودجل جديدة لكن الصادقين يدركون ان ما حركه موج الفتيات والفتيان في روح العاصمة هو إرادة الصمود والمقاومة التي قامت على انقاض اهتراء النظام وهؤلاء الشباب هم خميرة لمن يبحث عن مستقبل حقيقي وسط هذا الركام العظيم.إن صورة الوطن التي نريدها بعد الزلزال هي صورتهم وحدهم وكل ما لا يشبههم ساقط حكما ولن يكون من أهل الحياة.
إنهم روح المدينة التي تنسمت هواء البحر في الليالي وتذوقت سهرات الشاطئ وتساكنت مع كثير من العلل والعيوب التي زرعها الإهمال الإداري المتعاظم وتلزيم الخدمات بالقطعة لشركات المحظيين بعد قتل مفهوم الخدمة العامة وإثر الترهل الشامل في هياكل نظام دخل مرحلة العجز والشيخوخة وتقيحت عيوبه وسمومه من ثنايا الهياكل المخلعة.
فضلهم على أجيالنا انهم لم تحشدهم أي تنظيمات حزبية ولم يتبلغوا قرارا بالتجمع ولا أي نداء للتحرك بل كانوا يتدفقون من شوارع المدينة المنكوبة من غير شعارات او رايات تحفل بها عادة سائر تجمعات المدينة التي تضج بالهتاف وتكون في بعضها اليافطات طاغية حتى تضيع الوجوه وتختفي .
ليسوا من نسيج المجموعات المستحضرة إلى الشوارع والساحات بإشارة شبكات حزبية وتجمعات شبه حزبية وقد اختاروا لتمردهم مضمونا ايجابيا بتقديم الأمثولة والنموذج بكل صمت عبر المبادرة ولا يشبههم في تاريخ البلد سوى الشباب الذين بادروا في الأحياء والبلدات مطلع الحرب الأهلية إلى تنظيم شؤون العيش قبل ان تقفز سلطات الامر الواقع على ظهورهم ليخطفهم او يهجرهم طوفان العصبيات والتوحش ومثلهم هم المقاومون الأوائل الذين تقدموا للقتال ضد المحتل الصهيوني بعد الاجتياح اللئيم فجمعوا بنادقهم وعتادهم مما تركه الهاربون في خنادق القتال جموع المهزومين من داخلهم بخيبات المشاريع والعقائد وبتفسخ سلطة الأمر الواقع التي خربت المدن والقرى التي احالتها جثثا قبل ان يحتلها جيش العدو فنهضت سواعد الفتيان لتحررها.