مقالات مختارة

الوطن الهجين !: د. عدنان منصور*

 بعد تأسيس وطن «رسمي» على يد الانتداب، بعد ان احتلت القوات الفرنسية مع نهاية الحرب العالمية الأولى كلا من سورية ولبنان، ومنذ ان أعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو، لبنان الكبير من بيروت عام 1920، لم يستطع هذا الوطن الهجين ان يوحد شعباً، أو يؤلف بين طوائفه، بل عجز عن ان يوجد دولة قادرة مقتدرة، تحمي سيادته وترسخ استقلاله، وتطوّر مؤسساته، أو تحمي وتحترم استقلالية قضائه وتبعده عن تدخل الزعماء السياسيين والروحيين في شؤونه وأحكامه. لم تستطع الدولة بعد مائة عام، ان تحقق تنمية متوازنة بين المناطق، وترسي دعائم العدالة الاجتماعية، وتوفر تكافؤ الفرص، او تبني جيشاً قوياً رادعاً، قادراً على حماية سمائه وأرضه، وتمتين النسيج الوطني لشعبه.

 

هذا الوطن اللبناني حدّدته ورسمت خريطته وحدوده سلطات الانتداب الفرنسي، بمعزل عن الإرادة الحرة للبنانيين، كلّ اللبنانيين. وللتأكيد على ذلك، نتساءل: هل اللبنانيون هم من حدّدوا مساحة لبنان البالغة 10452 كلم2؟! وماذا لو انّ سلطة الاحتلال الفرنسي للبنان، جعلت مساحته أكبر أو أصغر من التي هي عليه اليوم، هل كان بمقدور اللبنانيين أن يعترضوا أو يرفضوا ذلك؟!

لقد أراد الفرنسي للبنان وللأسف، وطناً طائفياً، هشاً، هجيناً، وإن هيمن مكون من مكونات الوطن الجديد لفترة طويلة، على مفاصل الحكم والدولة ومؤسساتها ومرافقها، واستأثر بها مستفيداً من مناخ الانتداب الذي وفر له الرعاية والحماية، وكافة أسباب الدعم السياسي والثقافي، والمعنوي، والاقتصادي، والتجاري، والخدمي. دعم أدّى الى توصيف بلد «الانتداب» فرنسا، من قبل شريحة لبنانية، على انها بمثابة الأمّ الحنون. وطن لا زلنا ندفع ثمن تركيبته الطائفية الفريدة العجيبة حتى اليوم، حيث لم نستطع حتى اللحظة ان نبني الدولة المدنية الموحدة العادلة، وفق مفاهيم وقوانين العصر، وتطوّر حركة التاريخ، ونلغي من الاذهان عقدة الغبن والخوف، وهاجس العدد والخشية منه… التردّد والتأرجح في الانتماء بين الشرق والغرب، والغشاوة في التمييز بين الصديق الحقيقي الداعم، والصديق المزيف الانتهازي… بين الشقيق العربي، والحليف الغربي، بين العدو الفعلي المهدّد للأمة وللبنان بالذات، وبين الحريص على وحدته وسيادته وقوته والدفاع عنه. وهنا لا مجال للكلام بالتفصيل، وإثارة الحساسيات، واستحضار التاريخ الحديث المؤلم، لتسليط الضوء على علاقات لبنانية صهيونية، جرت على مستويات رفيعة، وغزل بين مسؤولين سياسيين وزعماء روحيين ومدنيين لبنانيين، وقادة صهاينة، في العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، قبل وبعد استقلال لبنان، وتأسيس الكيان الاسرائيلي المحتل في فلسطين.

بعد مرور قرن على إنشاء لبنان الكبير، لم يستطع حكام لبنان، ان يعززوا الثقة في ما بينهم، أو ان يحظوا يوماً على ثقة الشعب بهم. فمنذ اليوم الأول لتأسيس لبنان الكبير، نشأت شبكة مصالح مشتركة بين زعماء البلد وسياسيّيه، أدّت الى الشروع في تأسيس منظومة حكم فريدة، وترسيخ حياة اقطاعية متوارثة على مساحة الوطن اللبناني، أرست قواعد ثابتة لإمارات إقطاعية ومناطق نفوذ سياسية، تديرها منظومات وعائلات وشبكات اقتصادية ومالية مرتبطة بها، وكلّ ذلك، خارج إطار الدولة القومية الواحدة الجامعة، وبعيداً عن آمال وأهداف وتطلعات اللبنانيين، ومتطلبات المصلحة العامة للشعب الواحد.

 هذا السلوك الأعوج والشاذ، الذي لم يتغيّر عند الطبقة السياسية، منذ إعلان لبنان الكبير وحتى اليوم، جعلت غالبية اللبنانيين، تفرغ ما في صدورها من غضب، وتعبّر عن استيائها وقرفها وهي تشبه البلد من آن الى آخر، ومع كلّ أزمة، معتبرة إياه بمثابة المزرعة للطبقة الحاكمة… والحقيقة انّ البلد ليس مزرعة، لأنّ من لديه مزرعة، يعمد الى استغلال كلّ متر مربع منها أفضل استغلال من أجل زيادة الإنتاج، ويستخدم كل الوسائل العلمية لتحسين نوعية المحاصيل. لكن الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ مائة عام، وحتى اللحظة، لم تجعل لبنان مزرعة، بل جعلته مسلخة لها، ولأولادها وأحفادها، وحاشيتها، تستغله كيفما شاءت دون رادع او حسيب، مستفيدة من وضع طائفي قبيح، تتحصّن من خلاله، تدافع عنه وعن مصالحها ومكتسباتها، بكلّ قوة وشراسة، في كلّ مرة يطالب فيها الشعب بحقوقه، وعند ايّ طرح جديد، يطالب فيه بالدولة المدنية، والإصلاح السياسي والاقتصادي. وهذا ما يجعلها تتأهب في أيّ لحظة، لتثير عند البعض غرائز الخوف من الآخر، والخشية من فقدان الامتيازات والمنافع عند البعض الآخر، أو التحذير من تضييع وخسارة المكتسبات والصفقات والتلزيمات لفئة أخرى، أو تراجع النفوذ لزعيم ما، أمام وضع مستجدّ لا يصبّ في صالحه…

فأيّ لبنان نستحقّ، ونحن نستعيد الذكرى في مئوية تأسيسه؟! هل كانت الطبقة السياسية الحاكمة المتوارثة المتجذرة جديرة بقيادة وإدارة وحكم البلد؟! بعد مائة عام، وصلت الطبقة الحاكمة الى ذروتها، وتوّجت عهداً طويلاً متراكماً من الفشل والفساد، والبيروقراطية والمحسوبية والمنافع الشخصية، والصفقات والاختلاسات، وزادت عليه لتسلمنا بعد مائة عام، وطناّ في الحضيض: فقر وجوع وبطالة، وهجرة… سرقات وإثراء غير مشروع… صفقات وتلزيمات وفجور، مال عام منهوب… وعدل مفقود، وقضاء مكبّل من مسؤول… مناطق متخمة من كلّ الألوان، ومناطق غارقة في الفقر، ينهشها الحرمان…

بعد مائة عام من إعلان لبنان الكبير، لا يزال كلّ فريق من أفرقاء الوطن يغنّي على ليلاه. أهو زواج طبيعي أم قسري! أهو وطن نهائي لجميع أبنائه، أم هو وطن كتب وسجل وأعطي صكاً لطبقة تعبث بالبلد والشعب، تضمّ حفنة من المحظوظين الذين رماهم الدهر علينا؟! ماذا ستقوله الطبقة الحاكمة الفاسدة الفاشلة، للعالم الذي يحيط بنا وتتعامل معه بعد مائة عام؟! وبأيّ شكل تطلّ عليه، ودول في العالم لم يمرّ على استقلالها سبعون سنة، استطاعت ان تجد لها مكاناً لائقاً بين الأمم، وتحقق قفزات هائلة في مجالات التنمية المستدامة، والاقتصاد والصناعة والزراعة والعلوم على أنواعها!! بأيّ وجه قبيح مقرف مقزز ستكشف هذه الطبقة الحاكمة عن «إنجازاتها الباهرة» لدول العالم التي ترصد وتتابع أوضاعنا عن كثب، وتعرف كلّ صغيرة وكبيرة فيه!

بعد مائة عام لا نزال أسرى طوائف الدولة، ورهينة دولة الطوائف. فلا الطوائف توحدت في ما بينها على مفهوم وطني جامع، ولا الدولة استطاعت ان تتجاوز أخطبوط الطائفية وأصابعه. فكانت على الدوام هجينة، فريدة في نوعها، بحيث لم تكن يوماً دولة لوطن، بمقدار ما كانت على الدوام دولة لطبقة أوليغارشية، تمسك بمفاصل الحكم وأجهزته، وتقبض على البلاد والعباد، دون حسيب او رقيب، أو مساءلة أو محاسبة.

بعد مائة عام من إعلان لبنان الكبير، نرى أنّ طبقة حكام الشعب اليوم، أقذر طبقة شهدها اللبنانيون على مدى ثلاثة عقود، وهم يجسّدون قمة العربدة السياسية والانحطاط والفساد الأخلاقي، وأسوأ أنواع الأداء الوظيفي والسلوكي والمهني. حكام وزعماء دمّروا وطناً وأوصلوه الى الدرك الأسفل.

 انّ الكارثة المدمّرة التي حلت بلبنان، كشفت بوضوح وعلى الملأ وساخة وطغيان أرباب الطبقة الملعونة امام العالم كله، وكشفت مدى حقارتهم وفشلهم وفسادهم وابتعادهم عن مصلحة الشعب وحقوقه وتطلعاته وإرادته.

بعد مائة عام نقول: لا حلّ للبنان إلا بدولة مدنية قومية جامعة عادلة، بدستور جديد، وقوانين ثورية عصرية، يضمن حكم الشعب الحقيقي وحقوقه، يزيل عن كاهله رواسب الطبقة المفسدة وحكمها الطائفي البغيض، الذي لم يجلب إلى لبنان إلا المصائب والاحقاد، والتعصّب والكراهية، والتطرف والويلات، وكلّ الموبقات التي أورثتنا إياها طبقة فاجرة قاهرة جثمت على صدور اللبنانيين قرناً من الزمن ولا تزال…

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى