بيروت شيما هل يعمّق من الأزمة الداخلية في لبنان؟- منير شفيق
التفجير الذي تعرضت له بيروت في الرابع من شهر آب/أغسطس 2020، لم تشهد مثله، وهي التي عرفت من القصف والتفجيرات أكثر من أي عاصمة في العالم، بعد الحرب العالمية الثانية. وقد فاقت في السابق حتى ما تعرضت له هانوي من قصف طائرات “ب-52” الأمريكية.
التفجير وصل إلى كل شارع وبيت تقريباً، بتأثير متفاوت. وهنالك عمارات تداعت، أو تصدعت، والبعض يقدر الخسائر بأكثر من عشرة مليارات دولار. أما الشهداء حتى الآن فبالعشرات، والجرحى بالألوف، وردود الفعل النفسية لدى الكثيرين ستترك آثاراً نفسية مستدامة.
التفجير في بيروت أصَمّ الأذن على بُعد عشرة كيلومترات أو أكثر، كأنه تفجير وقع تحت البيت الذي تسكنه. وقد أُحسّ بأثر “زلزالي” (اهتزازي) له من مسافات شملت كل لبنان شمالاً وجنوباً وبقاعاً. وقيل إن أثراً له وصل إلى قبرص.
ويقدَّر أن نصف اتجاه التفجير في الأقل ذهب باتجاه البحر لأن موقعه في الميناء. واعتبر بعض الخبراء أنه لو كان موقعه في داخل المدينة لكانت النتيجة دماراً شبه شامل لكل بيروت، ولضياع الجبل من حولها. فما حواه المخزن الذي تفجر يساوي من قوة تفجيرٍ ما يقارب بعضاً من قنبلة هيروشيما، مما سمح بتسميته تفجير “بيروت شيما“.
من هنا يمكن القول إن الأيدي التي كانت وراءه، إن كان هناك من أيد، لم تكن لتقدّر، بدقة، حجمه وقوته وآثاره، وإن كانت تقدر بأنه سيكون كبيراً ومؤثراً ومدوياً. وقد تسربت أخبار تقول إن قيادة الكيان الصهيوني بعد انفجار بيروت أخذت تعيد النظر في وضع مصنع الأمونيا في حيفا، وما يحويه من مخاطر تفوق بالتأكيد انفجار بيروت. وربما احتاجت إلى عدة سنوات حتى تعيد ترتيب الوضع والانتقال إلى شبه الأمان.
على أن السؤال: هل تم التفجير بفعل فاعل، أم تمّ لأسباب تتعلق بالإهمال وعدم اتخاذ الاحتياطات الضرورية؟ بل بسبب الاحتفاظ به أكثر من ست سنوات وبيروت تنام وتصحو وتحتها هذا الخطر؟
من يتابع تسلسل الانفجارات التي سبقت الانفجار الكبير يمِلْ أكثر إلى ترجيح الفعل المتعمد، إما من خلال الطائرات الصهيونية وقصف الموقع، وإما من خلال عمل تخريبي متعمد من الداخل اللبناني، وربما من خلال طائرة بلا طيار.
وأصحاب هذا الرأي يربطونه بما حدث من عمليات تخريبية في إيران، وقصف في سوريا. ولكن لماذا الآن؟ وأي رسالة يريد الفاعل الصهيوني أن يرسلها إلى الدولة اللبنانية وإلى حزب الله وإلى الشعب اللبناني بعامة؟
هنا يمكن أن يُقرأ الهدف منه، ليكون رسالة تُوجَّه إلى المذكورين، وذلك تأكيداً لتهديدات نتنياهو بقصف البنى التحتية للبنان في حالة قيام حزب الله بأي عملية من الأراضي اللبنانية. فإذا ما جَمعتَ القدرة الجوية التقنية، والقدرة التخريبية من الداخل وفي الداخل، لدى الكيان الصهيوني، إلى الهدف المشار إليه، بتوجيه رسالة قوية للغاية إلى الدولة اللبنانية وإلى حزب الله وإلى الشعب اللبناني، فإن ترجيح وجود فاعل وراء التفجير يتغلب على احتمال أن يكون الانفجار قد حدث بسبب الإهمال أو لسبب داخل الموقع من الأسباب التي يمكن أن تسبب به.
على أن ضخامة الانفجار الذي دخل كل بيت وكل حي من أحياء بيروت بالإضافة إلى التدمير المباشر، وما حدث من ضحايا: شهداء وجرحى وخسائر مادية، راح يصبّ الزيت على نار الصراع الداخلي اللبناني-اللبناني، كما يصبّ الزيت على نار الصراع الدائر بين أمريكا والكيان الصهيوني من جهة، وإيران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد ومعارضة عربية من جهة أخرى.
فمنذ اليوم الأول انبرت قناة M.T.V من خلال برنامج لمرسيل غانم ليلة الرابع من أغسطس/آب 2020 لتطالب بإسقاط العهد والحكومة واستقالة النواب من البرلمان. وقد صعدت هذه المطالبة، لأول مرة، منذ اندلاع الأزمة الشعبية-الاقتصادية-المالية-السياسية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلى مستوى القطيعة، وقطع الخيوط بين قوى معارضة من المكونات الأساسية اللبنانية من جهة، وقوى عهد الرئيس ميشال عون ورئاسة الحكومة وقوى في البرلمان، وصولاً إلى حزب الله وعدة أحزاب أخرى من جهة ثانية.
إن حجم الانفجار وآثاره ولّد خوفاً وحزناً وغضباً شعبياً واسعاً جداً، ووضع الكثيرين أمام التساؤل: لماذا يحدث لنا كل هذا؟ وإلى أين؟ ومتى نتخلص من الذين تسببوا في انهيار البلد والوصول به إلى ما وصل إليه؟ وجعل كثيرين يتساءلون متى تكف “إسرائيل” عن التدخل في لبنان، أو يُوضَع حد لها؟
هذا المناخ العامّ يشكّل أرضية لمن يريد أن يؤزّم الوضع في لبنان، أن يذهب في الصراع إلى النهاية. وهي القطيعة والخلاص بأي ثمن، وما يشبه الحرب الأهلية.
لذلك فإن ما بعد تفجير بيروت سيُدخِل الوضع الداخلي المأزوم أصلاً إلى أزمات أشد حدة. وهنا يمكن لكل من يريد أن يعكّر الماء أن يصعد ويدفع الأمور إلى الحدود القصوى. هذا، ولا يستطيع لبنان أن يجرب مرة أخرى، حرب عام 1975 وتداعياتها التي دامت إلى 1990. وقد تخللتها حرب 1982. ولكن المشكلة أنه ما من حرب تتعلم من الحرب التي سبقتها، لأنها لا تبدو كأنها شبيهة لها، فلكلٍّ سياقها وخصوصياتها، الأمر الذي يسمح بتكرار الأخطاء تحت وهم أن ما نواجهه وسنواجهه اليوم ليس كالذي واجهناه بالأمس.
لهذا فإن ما بعد تفجير “بيروت شميا” لن يكون كما قبله من أزمة وصراعات وأساليب معالجة، ولا سيما إذا ما حشدت المعركة التي افتتحتها M.T.V قدراً أكبر من التأييد، وذهبت إلى المدى الأقصى في الصراع الذي بدأته.