قوات الأمن في المدن الأميركية قوة فيدرالية أم ميليشيا خاصة لترامب؟ د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
واشنطن / دشّن فوز الرئيس دونالد ترامب في العام 2016، مرحلة جديدة من تحولات سياسية واجتماعية اجتاحت المجتمع الأميركي، في سياق استكمال تطبيق سياسات وتوجهات مناقضة لدولة “الرعاية الاجتماعية” التي شهدت إرهاصاتها في عهد الرئيس الأسبق ليندون جونسون، كما دشّن انعطافة حادة أيضاً لترسيخ قيَم الرأسمالية في الهيمنة والاستغلال والعولمة المتوحشة، ومن ثم دولة القانون والأمن التي ترعرع مفهومها وأضحى، سياسة رسمية في عهدي الرئيسين الأسبقين ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان.
تكمن أهمية هذا الثنائي الجمهوري في أن ريغان تقلّد منصب حاكم ولاية كاليفورنيا الليبرالية، على خلفية برنامج “بسط الأمن والقانون” الذي استفاد منه نيكسون لاحقاً كسياسة استقطاب ثابتة.
لم تشكّل حملة الرئيس ترامب الانتخابية بداية مرحلة جديدة في النظام السياسي الأميركي، كما يُجمع عددٌ من خبراء العلوم الاجتماعية، بل نَهَلت من سُبل وسياسات سبقتها، خضعت لحسابات دقيقة كي تضمن “تفوّق وتمسّك” البيض بمفاصل الدولة، تحت شعار نيكسون الشهير “الأغلبية الصامتة”، الذي حقّق له الفوز الساحق على خصمه الديموقراطي الليبرالي نائب الرئيس الأسبق هيوبرت همفري في العام 1968.
استراتيجيَّة الرئيس نيكسون وحزبه الجمهوري عُرفت بسياسة “الجنوب”، لكسب الولايات الجنوبية التي كانت تؤيد بأغلبية كبيرة الحزب الديموقراطي، واستُنهضت بقوة بعد نحو 6 عقود، جوهرها التوجه إلى تعبئة الشرائح الفقيرة من الأميركيين البيض في جسم انتخابي يحابي همومها وثقافتها وهواجسها العنصرية، بعد استنهاض السلطات الرسمية مخاطر “الهجرة العظيمة” للأميركيين السود من الجنوب باتجاه مدن الحضر في الشطر الشمالي، والتي فاقمها ارتفاع معدلات الفقر والجريمة واستشراء المخدرات.
ولا تزال تلك الاستراتيجية تتصدّر المشهد السياسي الأميركي، وتكتسب زخماً جديداً مع كل دورة انتخابية، وتبرر مراكمتها قوة ذاتية مسلحة بذرائع متعدّدة، يغذّيها خطاب مُتخلّف موجّه لاستنهاض الغرائز الدفينة في مجتمع عنصري بالأساس، يقود اتباعه للاحتماء به وراء شعارات تبسيطية مثل “الحرب على المخدرات”، وكان أحد تجلياته بروز “حزب الشاي” على يمين الحزب الجمهوري.
الاحتجاجات الأخيرة التي اجتاحت كبريات المدن الأميركية كان فتيل تفجيرها قتل الشرطة لجورج فلويد، وتركّزت على مناهضة إفراط قوى الأمن في استخدامها القوة وقتل المتظاهرين، والتي أفرزت آلية معالجة خاصّة بها من قبل السلطات الرسمية، اضطرّت بعد حوادث صدام متتالية إلى التراجع المرحلي عن استخدام القوات العسكرية الرسمية، وعوّلت على فريق مسلّح آخر يخضع لسيطرة “وزارة الأمن الداخلي”، ويتلقى أوامره مباشرة من البيت الأبيض، ويتكوّن أساساً من قوة حماية الحدود.
أولى المحطات كانت نزول تلك القوة إلى مدينة بورتلاند في ولاية اوريغون في أقصى غرب الولايات المتحدة، وقيامها باعتقال محتجين وزجّهم في حافلات مبهمة الهويّة، وارتداء زيٍ عسكريٍ غير مألوف يغطي الوجه بالكامل، وعدم حمل إشارات الجهاز الذي تنتمي إليه.
يُشار إلى أن الاحتجاجات في المدينة حافظت على ديمومة بوصلتها ضد أجهزة الشرطة لشهرين متواصلين، وتخللتها صدامات مع قوى الأمن، واتّجه زخمها الاحتجاجي للسيطرة على بعض المباني الرسمية للحكومة الفيدرالية، مع تراجع قوى الحماية الرسمية، لقلة عددها في ممارسة مهامها.
اندلع حريق في مبنى المحكمة الفيدرالية، احتجاجاً على اعتقال “قوة حماية الحدود” الفيدرالية عدداً من المتظاهين، ولفرط استخدامها القوة لقمع المحتجين الذين لم يعرف إلى أي جهة تم اقتيادهم إليها.
سارع الرئيس ترامب إلى استغلال الحادثة المدروسة بعناية لتبرير خطواته المقبلة ونشر قوات إضافية في مدن كبيرة أخرى تقف سلطاتها المحلية على نقيض من سياساته، أبرزها شيكاغو، ووصف المشهد الأول في بورتلاند بأنه “أسوأ من أفغانستان“.
تفادى الرئيس ترامب ووزارة الأمن الداخلي تنسيق التوجهات مع السلطات المحلية، سواء في المدينة أو مع حاكم ولاية اوريغون، ونشر قوات عسكرية مدرّبة مدجّجة بالأسلحة، مما اضطرّ السلطات الرسمية هناك إلى اللجوء إلى سلطة القضاء للحدّ من تغوّل القوة العسكرية التي لا تخضع لسيطرة أحد باستثناء البيت الأبيض.
ارتفعت أصوات بعض المسؤولين في انتقاد سلوك البيت الأبيض واعتماده على “قوة حماية الحدود”، التي وصفتها أسبوعية “نيويوركر” بأنها تخضع “للسيطرة الفيدرالية، وقياداتها متطرفة بولائها لترامب، ومشبّعة بسياسات أقصى اليمين” (17 شباط/فبراير 2017).
وأعرب عضو مجلس النواب عن الحزب الديموقراطي، واكين كاسترو، عن خشيته وقلقه من استغلال المجموعات اليمينية المتشددة ثغرة السريّة لتلك القوة، وارتداء زيّها العسكري في استهداف خصومها في التيارات اليسارية والقاء القبض عليهم (يومية “نيويورك تايمز” 19 الشهر الجاري.).
العلاقة الوثيقة بين الرئيس ترامب و”قوة حماية الحدود” تعود إلى دعم نقابة اعضائها حملته الانتخابية في أوائل عام 2016، وهي المرة الأولى التي تدعم فيها نقابة قوة عسكرية مرشحاَ رئاسياَ بعينه منذ تشكيلها كإحدى أذرع وزارة الأمن الداخلي عام 2001.
وتشير البيانات المتوفرة إلى دعم الرئيس ترامب للمجموعة، ورفدها بعناصر جديدة قوامها 5،000 بعد 5 أيام من دخوله البيت الأبيض، كجزء من المجموع العام البالغ نحو 20،000 عنصر. وفي 26 حزيران/يونيو الماضي، أصدر الرئيس ترامب “قراراً رئاسيا” يخوّل بموجبه “قوة حماية الحدود” حماية التماثيل التذكارية “ومحاربة انتشار العنف الجنائي في الآونة الأخيرة“.
منذ بدايات تشكيل “قوة حماية الحدود،” كانت الشكوك تحوم حولها بالولاء والفعالية والمساءلة. وكشفت نشرة “برو بوبليكا ProPublica” الاستقصائية، العام الماضي، انتساب نحو 9،500 من أعضاء القوة إلى مجموعة عنصرية سرّية تشكلت في شهر آب/أغسطس 2016، تعرف بـ “آيم تن – ففتين (I’m 10-15)” وهو رمز التخاطب بين عناصرها، للإشارة إلى “المهاجرين المعتقلين“.
استاذ مادة التاريخ في جامعة ييل العريقة، تيموثي سنايدر، حذّر من تعاظم حضور عناصر مسلّحة في المشهد السياسي، مؤكداً أن ما “شهدناه في (مدينة) بورتلاند ينبيء بماهية الاحتلال”، وأضاف أن “الفاشية قد تتجسّد في الولايات المتحدة، وبعض تجلياتها وجدت ترجمتها عملياً، لكن لم نشهد نهايتها بعد” (نشرة “فورين بوليسي” 23 تموز/يوليو 2020).
وحذّر المدعي العام في مدينة فيلادلفيا، على خلفية ما جرى في اوريغون، القوات الفيدرالية من ملاحقتها قانونياً، كما حذّر “أي فرد، من ضمنهم عناصر الأمن الفيدرالي، من ارتكاب هجمات غير قانونية واختطاف أناس أبرياء”. وأضاف أن تلك التجليات يتحمل مسؤوليتها الرئيس ترامب “وكلها منصوص عليها في كتب ارشاديّة للعنصريين البيض“.
وزير الأمن الداخلي الأول، توم ريدج، عبّر عن غضبه من تصرفات الرئيس ترامب في تسخير القوات الفيدرالية لمصالح ذاتية. ريدج، من قيادات الحزب الجمهوري، قال “إنشاء الوزارة (في العام 2001) لم يكن لتوظيفها كميليشيا خاصة بالرئيس“.
السؤال الأبرز في أوساط النخب الفكرية والسياسية الأميركية يدور حول توجهات الرئيس ترامب إلى توظيف تلك القوات في صراعاته مع المؤسّسة الحاكمة، ولا سيما في حال خسارته الانتخابات، كما أوضح مبكراً، وما جرى في مدينة بورتلاند لا يعدو كونه تمريناً حياً في الإعداد للمرحلة المقبلة التي تهدد بإشعال حرب أهلية بمسميات مختلفة.
يومية “نيويورك تايمز” كانت من أبرز المؤسّسات التي انتقدت تصرفات الرئيس ترامب، واعتبرت تجربة مدينة بورتلاند “تمريناً استراتيجياً لإعلاء الفاشية، وتسخير النزعات العنصرية (بين البيض) لخدمة استراتيجية سياسية” (25 تموز/يوليو 2020).
كما أوردت نظيرتها الليبرالية، “واشنطن بوست”، نقلاً عن وزير العدل الوفيّ لترامب، ويليام بار، توضيحاً لمسببات إرسال الإدارة قوة عسكرية إلى مدينة بورتلاند، بأنه عبارة عن “رد واشنطن على الاضطرابات المدنية” (25 تموز/يوليو 2020).
المؤشرات الاجتماعية المتوفرة راهناً تشير بشدة إلى تأهب طرفي المعادلة السياسية، ترامب وحلفائه، مقابل السواد الأعظم من الناخبين الأميركيين، لمنازلة ترافق نتائج الانتخابات، مهما كانت.
احتمال لجوء أحد المرشّحيْن إلى الطعن في نتائج الانتخابات ودعوة القضاء للبتّ في نتائج متقاربة ليسا مستبعدين، وتأجيل الإعلان الرسمي للنتائج سيمنح الفريقين زمناً إضافياً للتحشيد والإعداد للمواجهة التي بشّر بها الرئيس ترامب مبكراً، وفي عدة مناسبات.
العامل الجديد في المعادلة المقبلة هو التحشيد والاصطفاف الجديد في المجتمع، والناتج عن مناهضة العنف المفرط لأجهزة الشرطة والأمن، والذي يمكن اختزاله بمشهد “حياة السود مهمة”، الذي قد يدخل كعامل مساعد لإدامة جذوة الأزمة مشتعلة، يعززه مناخ الانقسامات الحادة الناجمة عن تضاؤل الفرص الاقتصادية لمعظم الشرائح الاجتماعية، وإخفاق السلطات المركزية، ليس في معالجتها فحسب، بل في القفز عنها، بتقديمها “رشوة مالية” ضخمة لإحدى كبريات شركات الأدوية، “فايزر”، لتعزيز جهودها في انتاج لقاح لمعالجة فايروس كورونا.
ترامب، من ناحيته، سيحافظ على زخم خطابه السياسي المشبع بالعنصرية، والموجّه إلى قاعدته من الناخبين البيض من الشرائح الوسطى والدنيا، وتوظيف شعارات مرحلة الرئيس الأسبق نيكسون، بسط الأمن وسلطة القانون، للإبقاء على لحمتها وزجها ككتلة “منظّمة” في معركته الانتخابية. وفي الخلفية استنساخ مزاعم سلفه الأسبق ريتشارد نيكسون بأنهما يمثلان طموحات “الأغلبية الصامتة“.
سارع الرئيس ترامب إلى ترجمة توجّهاته باصداره قراراً رئاسياً في 22 تموز/يوليو الجاري، لشرعنة التدخل العسكري “الفيدرالي” في المدن الأميركية، وخصوصاً مدينة شيكاغو، تحت عنوان “عملية ليجيند Operation Legend“، معللاً في خطابه بصحبة وزير العدل ويليام بار بأن “هناك حركة متطرِّفة (هدفها) تقليص ميزانيات أجهزة الشرطة وتسريح طواقمها وإنهاء وجودها“.
واشنطن – مركز الدراسات الأميركية والعربية