عجز الحسابات في الخارج: البنوك توقِف «الكريديت كارد» بالدولار: ليا القزي
الأصول في العمل المصرفي تفترض أن لا تضع المصارف أكثرية ودائع الناس في «سلّة واحدة»، عملاً بمبدأ «توزيع المخاطر». العكس هو ما قامت به المصارف اللبنانية إذ رهنت أغلبية أموال الناس لدى مصرف لبنان، بعد أن كانت في الماضي توظّف 23% منها في الخارج. وحين اشتعلت النيران في «بيت المال»، لم يبقَ شيء لإنقاذه
لم يتمكّن أحد عملاء «بنك بيروت» من تجديد اشتراك شهري في أحد التطبيقات الأجنبية، الموصولة إلى بطاقة الائتمان بالدولار الأميركي. «البطاقة مرفوضة»، هي الرسالة التي وصلته. علماً بأنّ البطاقة نفسها كان قد جدّدها المصرف قبل مدّة قصيرة وقبض الرسوم المتوجبة عليها، من دون أن يُبلغ العملاء أي نية لإدخال تعديلات على طريقة عملها. تماماً كما مَسَحها من النظام المصرفي من دون إعطاء أي «علم وخبر»، أو إعادة الرسوم التي دُفعت. لماذا؟ لم يحصل الزبون على جواب واضح سوى أنّ الاتجاه لدى العدد الأكبر من المصارف هو لإلغاء الـ«كريديت كارد». ولكن ما لم يقله المسؤولون في المصرف المذكور – وعددٌ من المصارف الأخرى – إنّها طريقتهم الوحيدة لمنع الدفع ببطاقات الائتمان خارج لبنان نهائياً، بعد أن فرضوا ضوابط على المبلغ المسموح به شهرياً، إلا إذا كانت بطاقات لحسابات «الدولارات الطازجة» (Fresh Money). وما السبب الذي يدفع المصارف إلى هذا الإجراء؟ لأنّ المبالغ المودعة لدى المصارف المراسلة الأجنبية (Correspondent Banks) لم تعد كافية لتسديد التزامات المصارف المحلية، والأخيرة تُريد أن تُخفّف قيمة التزاماتها في الخارج، وواحد منها هو الدفوعات «ما وراء البحار» عبر بطاقات الائتمان.
قصّة بطاقات الائتمان بالعملة الأجنبية، تُشكّل «قشرة» واحدة من سلسلة مشاكل المصارف التجارية اللبنانية مع المصارف المراسلة، التي تعمل كوكيل للبنك المحلي في الخارج. ويُبرم المصرف اتفاقية مع مصرف مراسِل لتقديم خدمات تحويل الأموال وتمويل التجارة الخارجية، فتكون مصارف المراسَلة الضامن لتسديد مبلغ إلى أحد المُصدّرين، بالاتفاق مع المصارف اللبنانية التي تكون الضامن لتسديد المبلغ من قبل المستورد.
التطورات السلبية على هذا الصعيد ليست جديدة، بل تعود إلى نهاية العام الماضي، منذ أن خفّضت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف لبنان، وبات على المصارف المراسِلة إما زيادة قيمة الضمانات التي تحصل عليها من نظيراتها اللبنانية لفتح الاعتمادات أو تتشدّد أكثر في إجراء التحويلات وفتح الاعتمادات للمصارف اللبنانية. ما دفع هذه الأخيرة إلى الطلب من البنك المركزي، في كانون الأول 2019، الحصول على السيولة بالدولار من أجل تسديد التزاماتها في الخارج. الحاكم رياض سلامة «أحكم قبضته» على الدولارات المُتبقية في حساب الاحتياطي في «المركزي»، رافضاً تحريرها إلا لقاء فائدة تبلغ نحو 20 في المئة، على قاعدة «دبّروا أمركم». استمرت العلاقة بين المصارف المحلية والخارجية بالتدهور، إلى أن انتقلت «المراسلة» إلى مرحلة تشديد العمليات وتأخير إتمامها، بعد أن كانت بحاجة في السابق إلى أيّام قليلة. وباتت تمنع عملية الـ«Nesting»، أي العمليات التي تقوم بها مصارف لبنانية، عبر مصارف مراسلة عالمية، لحساب مصارف لبنانية أخرى لا تربطها اتفاقات بمصرف مراسلة («الأخبار»، 8 حزيران 2020).
في آخر أرقام أصدرها مصرف لبنان عن الفترة السابقة لأيار 2020، بلغت موجودات المصارف اللبنانية لدى المصارف المراسلة 4.7 مليارات دولارات أميركي، مُقابل التزامات بقيمة 7.8 مليارات دولار أميركي. أي أنّه، قبل شهرين، كان العجز يُقارب الـ3 مليارات دولار. لا يتوقّع أحد المصرفيين أن ترتفع نسبة العجز «بل سيبقى الفارق بين الالتزامات والموجودات ضمن هذا الهامش لأنّه لا توجد اعتمادات جديدة تُفتح في الخارج». ويشرح كيف أنّ البنوك «حاولت عدم الوصول إلى حالة تعثّر مع مصارف المراسلة، فكانت تُعزّز حساباتها في الخارج إما من خلال الدولارات الطازجة التي كانت تجتذبها من بعض الزبائن (كالمُنتج الذي يسمح بمضاعفة الأموال الجديدة بالدولار بنسبة تصل إلى 2.9 مرّة)، أو تبديل المبالغ بالليرة إلى الدولار لدى الصرّافين وبسعر صرف مرتفع الدولارات، قبل تحويلها إلى الخارج». ويزيد بأنّ عدداً من المصارف «توصّل إلى اتفاق مع المصارف المراسلة، يقضي بإعادة جدولة الدفوعات المستحقة، وتقسيطها على فترة زمنية مُعينة». تخفيض نسبة الأعمال بين المصارف اللبنانية وتلك في الخارج ليس مشكلة بحدّ ذاته، «طالما أنّنا لا نتخلّف عن تسديد الالتزامات»، يقول المصرفي قبل أن يُضيف إنّ «التأثير الذي سنشهده هو على عمليات الاستيراد، التي ستنخفض أكثر فأكثر، ويُمكن أن نشهد انقطاع مواد مُعينة».
وظّفت المصارف 70% من الودائع لدى «المركزي» طمعاً بالفوائد العالية
في آخر عام 2010، كانت المصارف توظّف 23% من نسبة ودائع الناس لديها في الخارج، «ما يوازي اليوم 27.6 مليار دولار، إذا حسبنا أنّه حتى بداية الأزمة كانت الودائع تبلغ 120 مليار دولار»، يقول الوزير السابق منصور بطيش. بدأ الرقم بالانخفاض منذ عام 2011، حين خالفت المصارف الأصول التي تقضي بتوزيع وتنويع المخاطر، «أي عدم جواز توظيف أكثر من 20% من قيمة الودائع في مكان واحد»، وباتت تُوظّف ما يُقارب الـ70% من ودائع الناس في مصرف لبنان «بسبب الفوائد المرتفعة التي كان يُقدّمها لها، في وقت أنّها لم تكن تنال على ودائعها في الخارج أكثر من 1%». تعمل المصارف «اللبنانية» بعقلية المُرابي المُنعزل عن مُحيطه، والذي لا يهتم بنموّ الاقتصاد الكلّي للبلد، وتنشيط بقية القطاعات الأساسية، طمعاً بأرباح جنوها من أموال الناس، مقيمين وأجانب. «لو حافظت المصارف على توظيف ما بين 20% و25% من الودائع في الخارج، وكان لدينا هذا المبلغ بداية الأزمة، كم كانت ستختلف الأوضاع؟»، يسأل بطيش.
الحصار المصرفي
في بداية تموز الجاري، بدأ العمل بقرار مصرف «HandelsBanken» السويدي (من أكبر المصارف، وشريك للعديد من الشركات الكُبرى والمؤسسات المالية. يعمل في خمسة أسواق خارج السويد، هي: الدانمارك، فنلندا، هولندا، النرويج وبريطانيا) بشطب اسم لبنان عن لائحة البلدان المسموح لها القيام بعمليات الدفع عبر الحدود، أكان إرسال الأموال أو استقبالها. القرار أتى في سياق سياسة مصارف في الدانمارك والنرويج والسويد وفنلندا وآيسلندا، منع المعاملات المصرفية مع لبنان. وأخيراً انضمت إلى اللائحة (غير الرسمية) مصارف أوروبية عدّة، أبرزها مصارف في فرنسا، من دون أن تكون الإجراءات التي تفرضها مُستندة إلى قرارات رسمية. وقد علمت «الأخبار» أنّ مصارف «دويتشه بنك» الألماني، و«بنك الإمارات دبي الوطني»، و«بنك قطر الوطني»، باتت تمتنع عن تحويل الأموال إلى لبنان.
(الاخبار)