“حياد” أنطاكية وسائر المشرق محمد شمس الدين
دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي الأخيرة إلى “الحياد” ليست جديدة بمنطق قسم من المسيحيين الذين يشعرون بأنهم يواجهون خطراً “وجودياً” كمكونات أخرى في لبنان والمنطقة التي تبدو ولادتها الجديدة “عسيرة” حتى الآن في ظل التعقيدات القائمة والإحتراب الكبير الذي تعيشه خصوصاً في العقد الأخير من الزمن.
الجديد في دعوة البطريرك هو أنها أطلقت كرؤية “مسيحية” يقودها الصرح في بكركي باتجاه “التدويل” مباشرة عبر الأمم المتحدة، ومن خلال حاضرة الفاتيكان، من دون حتى الرجوع إلى باقي المكونات في لبنان ومناقشتها معهم لتسير في مسار “توافقي” كما هو متعارف عليه في كل القضايا المصيرية التي ينادى بضرورة التوافق عليها، لكن يبدو أن حسابات البطريرك الراعي بدأت بـ”الإختلال” نتيجة الشعور بالوهن في مواجهة ما يتعرض له المسيحيون، مقدراً أن خير وسائل الدفاع عن المسيحيين هو الهروب إلى الأمام والإختباء خلف شعار “الحياد” و”تدويل” الأزمة التي تعيشها هذه الشريحة الوازنة والمهمة في المجتمع اللبناني والمشرقي على حد سواء.
ربما لم يلتفت البطريرك الراعي أو من صاغ له “مشروع الحياد” وقيل أنه مستشاره الذي شغل سابقاً موقعاً وزارياً في إحدى الحكومات، إلى أمرين:
الأول: أن “الحياد” الذي يتحدثون عنه إنما هو مشروع يلاقي بشكل أو بآخر ما تسعى إليه إسرائيل من ضرب عنصر قوة لبنان الوحيد وهو المقاومة التي لم تفلح كل المحاولات في ضربها حتى بأعتى الوسائل في حين أن المسيحيين الذين يستضعفهم غبطته ويحيل دورهم السياسي على “التقاعد” هم من أشد المناصرين للمقاومة وهو ما أثبتته تجارب التعايش الإسلامي – المسيحي العديدة وجرت في سنوات عجاف وتجلت في أبهى صورها خلال حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان. وفي هذا السياق فإن كل الكلام والتصريحات التي تصدر عن جهات حزبية مسيحية لم تستطع حجب هذه الحقيقة التي سطعت حتى بالرغم مما سمي بـ”الحرب الأهلية“.
الثاني: هو أن المسيحيين في لبنان قد واجهوا طرحاً أميركياً لإسقاطهم من المعادلة السياسية في المنطقة عندما استنتجت إداراتهم المتعاقبة أن هذه المنطقة منقسمة بين أكثريتين مسلمتين واحدة سنية وثانية شيعية وأن لا دور بينهما للمسيحيين لا في لبنان ولا في الشرق وأن عليهم الإلتزام بهذه “الديمقراطية” التي تُسقط دورهم حتى من السلطة والدولة في لبنان. هذا مشروع الأميركيين ومعهم الأمم المتحدة التي يلجأ اليها سيد بكركي لتبني و”فرض” فكرته “للحياد” الذي لحًن له على وزنها كثر، لا سيما من ذهب إلى إضافة أوصاف عليها كزعيم المختارة وليد جنبلاط “الإيجابي”، متناسياً ما سببه للمسيحيين في منطقته وما زال مستعداً لتكراره في أية لحظة يستطيع فيها ذلك، وهو ما أثبتته وقائع الحوادث الأخيرة التي جرت في “قبر شمون” بالأمس القريب وما زالت تداعياتها قائمة.
المشروع الأميركي نفسه عرض أن يقدم للمسيحيين كل الضمانات الإجتماعية والإقتصادية وتسهيل هجرتهم إذا أرادوا إلى أي مكان يريدونه مع كل الحوافز الممكنة وهو ما ساهمت بإنضاج فكرته “أم لبنان الحنون” فرنسا، شرط ألا يطالبوا بأي موقع سياسي أو حتى إداري وازن، إلا أنهم رفضوا وقرروا البقاء وتبنوا مبدأ مشاركة المكونات الأخرى “المواجهة الوجودية” التي يخوضونها ضد “أسرلة” المنطقة التي تسعى أميركا لتسييد “إسرائيل” عليها ولو اقتضى الأمر تدميرها إما بيد “إسرائيلية” مباشرة تمت تجربتها وفشلت، أو عبر ما يجري حالياً من استخدام عملاء برتبة دول وزعماء وقادة أو تشكيلات مسلحة تلبس أقنعة من شتى الصنوف الدينية والقومية وغيرها، وذلك بعد زعزعة هيمنتها تمهيداً لزوالها.
ما يطرحه البطريرك من “حياد” يشكل استضعافاُ واضحاً لدور المسيحيين الرئيسي في إعادة تشكيل لبنان والمنطقة على أسس عادلة ويعيدهم إلى صيغ “أهل الذمة” بتسميات حديثة في حين أن مقدسات المسيحيين في فلسطين التي هي على مرمى حجر من لبنان مركز قوتهم الأساسية في الشرق تنتظر قدومهم المدوي لتحريرها من رجس الصهاينة، فيما التخلي عن الدور الريادي في هذا البلد بسبب “ضائقة” ستزول عاجلاً أم آجلا سيضع المسيحيين في موقع صعب وخطير لم يواجهوا مثله في تاريخهم الحديث.
ليس من الحكمة بمكان أن يتم التجاهل المتعمد للتطورات التي غيرت بشكل جذري مسارات الأمور في المنطقة في العقود الأربعة الماضية، لاسيما العقد الأخير منها، إن على صعيد انقلاب موازين القوى رأساً على عقب، أو حتى في الجغرافية السياسية وربما في فلسفتها، كذلك ما حصل في لبنان وسورية اللذان يعاقبان حالياً على نتائج ما وصلت إليه الأمور فيهما، في حين أن ذاك التجاهل ينم عن عدم قدرة على رؤية الواقع الجديد الذي فرضته تلك التطورات، كما عدم قراءة أن “الحياد” ليس هو الحل لأية مشكلة مهما كان حجمها.
لا بد من الإشارة إلى أن “حياد” أنطاكية وسائر المشرق مسيحياً، “الإيجابي” جنبلاطياً، يلاقي “أردغنة” آيا صوفيا التركية، ويقدم هدية قيمة لمن يريد تهويد القدس وتحويل كنيسة القيامة إلى متحف “إسرائيلي” لتعزيز السياحة.