..وتعطّلت… لغة الأرقام.. حيّان سليم حيدر
مدخل: ما يأتي ليس إنتقاصًا من فاقدي قدرة الكلام، لا سمح الله، بل إنتقام من فاقدي حسّ المسؤولية الوطنية.
نحن نعيش في عالم يتأرجح فيه المنطق العام فيما بين الشكّ واليقين حيث كلّ موضوع وحدث يظهر لناظره في أحدى هاتين الحالتين. لقد نشأتُ وتربّيتُ وترعرعت وتعلمت على أساس أنّ الرقم هو العنصر الذي يكاد يكون الوحيد الواضح والقاطع والذي يمكن أن يفصل فيما بين الشكّ واليقين.
يقول الصحافي نقولا ناصيف: ثمّة أرقام موجودة، وأرقام محجوبة، وأرقام متلاعب بها مزوّرة، وأرقام بقلم رصاص وأخرى بحبر أزرق… ونضيف إلى ذلك هناك أرقام بحبر مخفي! وفي لبنان “السوبرماركت”، ولأنّ الحقيقة هي مؤلمة وتفضح، فالرقم بات وجهة نظر، وهذا ينسحب على أرقام الناتج القومي والدين العام والإحتياطي المالي والعجز التجاري فالربح والخسارة وحتى أنّ مفهوم المال العام بات وجهة نظر. وزيادة في الإحتياط، أي لتضليل ما يمكن أن يظهر بدقة يومًا ما، فنُغيّب قطع الحساب، سنة بعد سنة، موازنة عامة بعد موازنة عامة في مخالفة صريحة ومفضوحة ومتعمّدة ومتكرّرة للدستور اللبناني ونتجاهل عمدًا تقارير هيئات التفتيش والتدقيق والمساءلة والمحاسبة الرسمية.
وهل خطر ببال اللبناني الشاطر أنّه سيأتي يوم لا يمكن له أن يحدّد فيه رقم الخسارة ورقم ما تبقى له من مال عام وأين مكان وجوده، أو مِن أين خرج وإلى أين ذهب، ناهيك عن وجهة إنفاقه إلخ…؟
في هذه الأجواء وفي صباح يوم عصيب، دخل “سوبرماركت” لبنان شاب أبكم يُوَلوِل يُهوّل صارخًا مروَّعًا مروِّعًا: يَعْ لَعْ أوو هووأَقْ طَعْ أخّْخّْ بَحْ.
فالتفّ حوله البعض متسائلًا غير فاهم سائلًا، فأعاد هلعَه بصوت أقذع ومع توسّع حلقة الفضوليّين حوله كرّر بشكل أفظع وبحركات أوسع: يَعْ لَعْ أوو هووأَقْ طَعْ أخّْخّْ بَحْ، مستدعيًا المزيد من الفضوليّين من المحال المجاورة ومن الشارع.
وأمام هذه المشهدية الكلامية ما كان من صاحب المكان إلّا أن طلب من الموظفين إستدعاء “فليْتان” الأخرس من أمانة المستودع لربّما فهم على هذا الضيف المُرتاع. فكان ذلك وكان حوار.. على وتر صاخب متقطّع لعلعت فيه الأحرف وتبعثرت الإشارات واختلف التفسير فيما بين لغة الكلام، المعطلة أساسًا، ولغة الجسد وأفرغ الزائر محزون حنجرته (تصلح بالخاء والحاء) وأطلق العنان لعصبية حركاته وغادر. فأومأ “فليْتان” رأسه فاهمًا متفهّمًا وانصرف باسمًا إلى مستودعه. وبقي الناس مَوْجوسين، رُعْبُهم في وجوههم.
وحلًّا للّغز، تمّ استدعاء بعض المعنيّين بالأزمة المُعاشة من مندوبي ومستشاري ومنظّري كلّ من: الصندوق، الحكومة ووزارة المال كلّ بفصائلها، المصرف المركزي وجمعية المصارف، اللجنة المالية البرلمانية والمستشارين لكلّ منها ومنهم ومن غيرهم، الإعلام والمنصّات والخبراء والمتطفّلين، السفراء مع سفهائهم، ال…، فتلاطمت الأرقام وتناثرت فلكيةً بين 241 تريلّيون زعم الأول أنّه رقم الخسارة، وهل تعلمون أو تدركون ما هو التريلّيون؟ ثمّ قابله الآخر مصحّحًا بأن الرقم هو 80 من الفضّة، عفوًا من التريلّيونات. قِفْ: هل تدركون ماذا يعنى هذا الفارق الكوني الهائل فيما بين الرقمين؟ وبين هذا الفصيل وذاك تدخّلت لجنة “تدوير الزوايا” موفِّقةً بالرقم 140 أو ما قارب ذلك على أساس أنّ الرقم، أيّ رقم، يخضع في لبنان للتسوية تمامًا كما وجهة النظر. وبعد 19 جولة من المفاوضات العبثية استدعوا “فليْتان” ، حافظ السرّ، فاستفسروه واستجوَبوه، وتناوروا وتناوبوا على التفسير فالتبرير (من أقوال الرئيس سليم الحصّ: “وفي التفسير تبرير”) فإلى الإنكار والإستنكار والإدانة فإلى … وفي النهاية صارحوا الشعب بأنه يمكن تلخيص المشكلة كما يأتي: يَعْ لَعْ أوو هووأَقْ طَعْ أخّْخّْ بَحْ. وانصرف “فليْتان” راسمًا علامات الإرتياح على وجهه، موَدّعًا إلى مستودعه، وتناظر الحضور وشذرُهم في عيونهم وارتياعُهم في وجوههم.
وقيل أنّ الحلّ هو إمّا في تدقيق محاسبي أو في تدقيق جنائي؟ والجنايات بحقّ الشعب لم تُعدّ ولن تُحصى، وتمّ ترحيل الموضوع برمّته إلى يوم الحساب !
ومع تساؤل الناس: هل فهمتم شيئًا من كلّ هذا الذي جرى؟ إنبرى الذكي والشاطر وكاشف المستور شارحين الحال “ومن الآخر” (كما يسري شائع القول)، من آخر كلام “فليتان”: “أوو هوو” يعني إبكوا، و”أخّخّْ” هو وصف للوجع الآتِ لا محال، و”بحْ” تعني طارت الأموال لا مجال !
وقد فهمنا ما رمى إليه “فليتان” وزميله ، يبقى أن نفهم كلام فُصَحاء الصندوق وأعوانهم !..
وإلى أن نلتقي مجدّدًا (إذا إلتقينا):
تصبحون على يَعْ لَعْ أوو هووأَقْ طَعْ أخّْخّْ بَحْ..