الحريق الأفغاني وسباق الانتخابات الرئاسية الأميركية أحمد الحاج علي
بغض النظر عن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول الإسراع في سحب القوات الأميركية من أفغانستان، يبرز اهتمام مادي للبنتاغون والاستخبارات المركزية CIA والمجمع الصناعي الحربي في البقاء في أفغانستان، والحديث يدور حول إرسال دفعات من المساعدات المالية لأفغانستان خلفها صفقات رشاوى وتبييض أموال كبرى.
خلال عقدين من زمن الحملة الأميركية في أفغانستان، صرفت واشنطن مبالغ ضخمة ليس فقط لأهداف أمنية عسكرية بل نظرياً تحت عنوان ما يسمى “التنمية الاقتصادية الاجتماعية والإعمار” في هذا البلد. في الحقيقة ما كان يصل من هذه الأموال هو جزء بسيط جداً بينما معظم تلك التحويلات كانت تعود لسماسرة تلك الصفقات في الولايات المتحدة.
منذ بداية سنة 2001 تم تحويل 130 مليار دولار أميركي إلى أفغانستان! ولكن معظم تلك الأموال لم تصل إلى البلد المحتاج بتاتاً.
القسم الأكبر من تلك الأموال بقيت في الولايات المتحدة، وبحسب المفتش العام الأميركي لإعادة بناء أفغانستان، “د. ج. سوبكو”، فإن مخططات فساد الأموال المقتطعة من المعونات الأميركية المخصصة لأفغانستان أدت لتفاقم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أصلاً في هذا البلد الذي يحاول التعافي من تداعيات عدم الاإستقرار السياسي والأمني والعسكري.
يبرز سؤال حول كيفية تورط مسؤولين رسميين أميركيين في عمليات تهريب أموال مخصصات العقود والمساعدات المرسلة لهذا البلد، فآليات الدعم تخضع لسلسلة عقود متعددة المستويات يشارك فيها عدد من المقاولين والمقاولين المتفرعين الأميركيين، وفي الدرجة الأولى يأتي دور المؤسسة الأميركية للتنمية الدولية “يو أس أيد USAID ” فعبرها يحول الفاسدون إلى حساباتهم الشخصية أكثر من 50% من أموال الصفقات والمساعدات الأميركية لأفغانستان، على سبيل المثال ضمن برنامج تحسين أوضاع المرأة في محافظات باداخشان وخوست بلغ حجم الأموال المرتجعة لجيوب المقاولين 90-95 %.
الآلية الاعتيادية المتبعة تسير كالتالي: تصرف مؤسسة “يو أس أيد USAID” مخصصات مالية لجهة أو مؤسسة أفغانية معينة، ويتم التصريح لوزارة المالية الإفغانية بمبالغ عالية مع رفع قيمة المساعدة الفعلية أضعاف وبعد تحويل الأموال المضاعفة بحسب العقود إلى سيولة نقدية تعاد مبالغ تفوق ال 50% لأشخاص ذوي صلة بمؤسسة “يو أس أيد USAID” وفي غالب الظن بهذه الطريقة تجري عملية تصفير المبالغ المستلمة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولكن بنسب أقل بسبب وجود عدد أكبر من الشهود في المؤسسات الدولية.
“د. ج. سوبكو” خلال تقريره المقدم للكونغرس الأميركي في شباط/ فبراير 2020 ذكر أن حجم المساعدات المفترضة تفوق استيعاب الاقتصاد الأفغاني، وبحسب تقريره فإن المساعدات يجب أن تعادل 15 إلى 45 % من الناتج القومي للبلد، بينما بلغت مساعدات الولايات المتحدة في أعوام 2007 و2010 ما يقارب 100% من الناتج الوطني لجمهورية أفغانستان الإسلامية. من الواضح ان هذا الهدر ليس مبرراً وهذه المساعدات غير فعالة وتفسح في المجال أمام عمليات السرقة، ومحاولات السياسيين تقليص المساعدات لأفغانستان تواجهها اعتراضات العسكريين، الراغبين بالمحافظة على مصدر دخل لهم و للمقاولين المتورطين معهم في هذه العمليات.
في 23 آذار/ مارس أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن تقليص المساعدات لأفغانستان بمليار دولار أميركي، بسبب فشل مرشحي الرئاسة الأفغانية أشرف غني أحمدزي وعبد الله عبد الله في تقاسم السلطة في ظل نتائج انتخابات مشكوك بها بحسب بومبيو. رسميًا، لم يترجم هذا التصريح عملياً فواشنطن لم تؤكد ما وعد به وزير خارجيتها، ولا يوجد ما يؤكد تقليص المساعدات.
من ناحية أخرى، طالب عدد من السيناتورات الديموقراطيين وزير الحرب الأميركي مارك أسبر بتقديم كشف حساب حول تقليص المبالغ المصروفة لأفغانستان، ولكن هذا الكشف لم يُقَدَّم! يبدو أن البنتاغون يريد أن يُبقي هذا الملف مفتوحاً، وفي جميع الأحوال لا يرغب بتقليص الموازنة على حساب المخصصات العسكرية.
من الواضح أن لمنظومة التصنيع الحربي الأميركية اهتمام خاص بالأموال المغرية المخصصة لأفغانستان ومنها المخصصة لشراء وتصنيع الآليات والمواد المرسلة للقوات الأميركية وقوات “الناتو” العاملة في أفغانستان، كذلك المعدات والمواد المخصصة كمساعدات للقوات الأفغانية التي ترسل بأسعار مبالغ في قيمتها ما يتماشى مع مصلحة المصنع الأميركي. فبدل إنشاء مصنع طلقات ومقذوفات بنادق الـ أم 4 و أم 16 بكلفة 12 سنت للطلقة تستمر واشنطن بتوريدها للأجهزة الأمنية الأفغانية بكلفة 57 سنت للطلقة!
كما أن العسكريين الأميركيين رفضوا استيراد مادة الكيروسين من روسيا بـ 94 سنتاً ويفضلون شراءها من اليونان بـ 1.4 دولار لليتر الواحد. ولتجنب المراقبة تقوم الولايات المتحدة بتمويل هذه الصفقات من صناديق خاصة وتتجنب المؤسسات الدولية.
في المجالات المدنية تُستعمل نفس آليات رفع أسعار الخدمات والمواد ومضاعفة قيمتها عبر المقاولين الأميركيين، بما فيها ما يتم إرساله عبر يو أس أيد. مؤخراً، تم تصدير 10 آلاف فحص لفيروس كورونا عبر وزارة الصحة الأفغانية بسعر 48 $ دولارا أميركيا للفحص الواحد وكلفتها الحقيقية 5 $ دولارات للفحص الواحد.
إلا أن الكعكة الأدسم من العقود الأفغانية تكمن بتوريد المشتقات النفطية وتوريد احتياجات القوات الأمنية الأفغانية وقوات “الناتو” من آليات وتجهيزات تجري السمسرة حولها من قبل رجال الكونغرس، تحصل زوجاتهم خلالها على مناصب استشارية في مجالس إدارات الشركات المرتبطة بهذه الصفقات، ويبقى المسؤولون الحقيقيون عن تلك الصفقات خلف الكواليس ويحصل المقررون المشغلون على الأرض من الخبراء على رواتب خيالية 30-40 ألف دولار شهرياً وهم يُفرضون ضمن شروط العقود التي تقف خلفها الولايات المتحدة الأميركية.
من غير المستغرب أن المساعدات لأفغانستان والتي فاقت بأضعاف مضاعفة المبالغ المخصصة لخطة مارشال التي أقرت لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية عبارة عن عملية نصب دولية ممنهجة لصالح القيمين على المنظومة العسكرية ومجمع التصنيع الحربي الأميركي والشركات والمقاولين المرتبطين بها وهي منظومة متكاملة من محترفي تبييض وسرقة الأموال.
مؤخراً، نشرت وسائل إعلام معلومات حول نية القيادة الأفغانية العليا بحصر خطوط مساعدات التمويل الخارجية بها. وفي شهر نيسان 2020 أعلن الرئيس الأفغاني عن إطلاق إصلاحات في وزارة المالية الأفغانية دون الرجوع للبرلمان، وربط عدد من أقسام وزارة المالية بإدارته الرئاسية وهي متخصصة بمسائل الموازنة وتحصيلات الإيرادات الجمركية الحكومية، والضرائب، إلا أن وزير الخارجية الأميركي انتقد قرارات الرئيس الأفغاني، ووصفها بالفاسدة. من الملفت أنه بعد تلك التصريحات تراجع الرئيس الأفغاني عن مبادرته، فتبعية كابول السياسية للولايات المتحدة تصب في مصلحة منظومة الفساد الأميركية وآليات تمويلها المشبوهة. من الواضح أن الأميركيين لا يرغبون بإفلات السيطرة على المنظومة المالية الأفغانية ولا يسمحون لعملائهم بالإمساك بكافة خيوط التحكم بها.
في هذا السياق، نستشهد بما نشرته صحيفة الكومرسنت الروسية بتاريخ 04.07.2020 في مقال بعنوان “الاستخبارات الأميركية تشارك في تجارة المخدرات”. فالاستخبارات الأميركية التي تتهم روسيا بالتآمر مع حركة “طالبان” المحظورة في روسيا هي نفسها متورطة بعمليات تهريب وتجارة المخدرات. كان هذا تصريح الممثل الخاص للرئيس الروسي في أفغانستان، مدير قسم الإدارة الآسيوية الثانية في وزارة الخارجية الروسية زامير كابولوف لقناة “روسيا الأولى”، ولفت كابولوف الى وجود عمليات رشاوى لا حدود ولا حصر لها من مشاريع التنمية والمساعدات لهذا البلد، شارك فيها عملاء الاستخبارات الأميركية “اللامعين” على حد تعبيره، الذين يتهمون روسيا بأمور متعلقة بتهريب المخدرات! فهم بحسب زامير كابولوف لديهم طائراتهم الخاصة في قندهار وباغرام يطيرون بها إلى أي مكان في العالم دون مراقبة، وهناك معلومات عن توجه هذه الطائرات إلى ألمانيا ورومانيا وغيرها، وهذه باتت معلومات شائعة في أفغانستان يعرفها ويتحدث عنها كل أفغاني.
في وقت سابق ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أن روسيا دفعت مكافأة لـ”طالبان” لقتلها العسكريين الأميركيين في أفغانستان. الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصف الأمر بالرسالة الملفقة الموجهة ضده و ضد الحزب الجمهوري. وفي وقت لاحق ووفقاً لمصادر “نيويورك تايمز” مجدداً فإن الاستخبارات الأميركية أبلغت ترامب أنه لا دليل مباشر لديها على تورط موسكو في تمويل “طالبان” بهدف قتل جنود أميركيين في أفغانستان.
الفضيحة الأفغانية أظهرت تناقضًا بين السياسيين والأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية. فقد نشرت “كوميرسانت” الروسية أيضاً بتاريخ 01.07.2020 مقالًا حول الموضوع، جاء فيه أن الهجوم على الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أثارته مقالة في “نيويورك تايمز” حول اتهام موسكو بتمويل “طالبان” في عملياتها ضد القوات الأميركية في أفغانستان، يزداد اتساعاً. وبعد نشر “نيويورك تايمز” لما وصفته بآلية تمويل روسي لحركة “طالبان”، طالب المرشح للرئاسة الأميركية جو بايدن وعدد من رجال الكونغرس في الحزب الديموقراطي رؤساء أجهزة الاستخبارات المركزية بتوضيح فوري، ومعسكر ترامب اتهم بدوره هذه الأجهزة بتسريب المعلومات، ومن الواضح وجود تناقض في الآراء حول اتهام موسكو بهذا الأمر، أو بالحد الأدنى استخدام هذا الاتهام في سياق التنافس الانتخابي على الرئاسة.
مقالة “نيويورك تايمز” بتاريخ 29 حزيران تضمنت معلومات منسوبة للاستخبارات الأميركية التي اعترضت بحسب معطياتها بيانات إلكترونية مرتبطة بتحويلات مالية من حساب مصرفي يُزعم أنه مرتبط بالإستخبارات العسكرية الروسية لصالح حساب يدار من قبل حركة “طالبان”! وقالت الصحيفة الأميركية إن المصادر المزعومة التي لم تكشف عنها حصلت على المعلومات من خلال استجواب أسرى من حركة “طالبان”، الخبر ورد كذلك في “واشنطن بوست”. وادعت “نيويورك تايمز” معرفتها بأسماء الأفغان المتورطين في هذه العملية بمن فيهم الشخص المسؤول عن تحويل وتوزيع الأموال. وبحسب ادعائهم هو موجود في روسيا! كما ادعت الصحيفة في إشارة لمعلومات مسؤولين أفغان أن رجال أعمال تم احتجازهم خلال الأشهر الستة الماضية للاشتباه بقيامهم بعملية الوساطة بين الاستخبارات العسكرية الروسية وحركة “طالبان”! وتدعي الصحيفة اكتشاف مبلغ نصف مليون دولار في شقة أحدهم، ولكن في المقالتين المنشورتين في الصحيفة الأميركية لم يتم يذكر أي اسم محدد في حين كثر الحديث حول فرضيات تتطلب المزيد من التفاصيل.
وخلال حملته الانتخابية، رد المرشح الديموقراطي جو بايدن على أسئلة الصحفيين حول ما إذا كانت موسكو فعلاً تقف خلف عملية تمويل “طالبان” لتنفيذ هجمات ضد القوات الأميركية في أفغانستان، وانتقد بايدن منافسه ترامب الذي بحسب رأيه كان عليه مناقشة الأمر مع لجنة رؤساء أركان القوات المسلحة الأميركية وكذلك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أنه لم يفعل. ووعد بايدن في حال تم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة أن يطرح السؤال على موسكو من موقع القوة. وذكر بايدن أنه حين كان يشغل منصب نائب الرئيس أجرى مباحثات مباشرة وصريحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأن هذا هو أحد أسباب عدم رغبة الأخير برؤيته رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. وبات الموضوع مادة تجاذب ومزايدة بين المرشحين للرئاسة الأميركية في زيادة الضغوطات على روسيا ومحاولة لاستخدام مجلس الأمن لتطبيق العقوبات.
واقترح بايدن على ممثلي الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس أن يطالبوا أجهزة الاستخبارات بتزويدهم بالحقائق، وأضاف أنه بعد ترشيحه رسمياً خلال مؤتمر الحزب الديموقراطي في ميلووكي وويسكونسن في شهر آب القادم سيستخدم حقه في مطالبة البيت الأبيض بتقديم المعلومات حول هذا الموضوع.
وطالب الديموقراطيون بالفعل في الكونغرس أجهزة المخابرات بتقديم توضيح، وقال آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي: “نحتاج إلى الاستماع لمعلومات من رؤساء الأجهزة الخاصة حول تقييمهم للادعاءات الصادرة والمنشورة في أماكن عامة سواء اعتبروا هذه الادعاءات صحيحة أم خاطئة”. ويقول زعيم الأغلبية الديموقراطية في الكونغرس ستيني هوير: “تعرفنا على وجهة نظر البيت الأبيض ونحن بحاجة للتعرف على وجهة نظر مجمع الاستخبارات“.
أما السيناتور الأميركي بوب مينينديز فقد اقترح تعديلات على ميزانية الدفاع الأميركية تنظر في وضع عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والسلطات الروسية بسبب الاتهام المزعوم بالتآمر مع حركة “طالبان” ضد القوات الأميركية في أفغانستان.
موسكو ترى في كل هذا السجال محاولات تجاذب تصب في مسار المنافسة والمزايدة الداخلية على الرئاسة الأميركية، وكما جاء على لسان الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف “تحدث الآن أمور صعبة التوضيح والشرح في الولايات المتحدة الأميركية“.
يبدو أن مسار تداعيات هذه الفضائح الأميركية سيكون مرتبطاً بالتفسيرات التي ستقدمها أجهزة الاستخبارات وسيعتمد على مقاربة هذه التفسيرات من قبل المعسكرين الأميركيين المتنافسين وصولاً للمرحلة النهائية من سباق الانتخابات الرئاسية.
ويبدو أن حدة المنافسة بين الديموقراطي والجمهوري باتت تنعكس انقساماً داخل منظومات أجهزة الاستخبارات. وقد ذكرت “وول ستريت جورنال” نقلاً عن مصادر خاصة أن هذا الانقسام موجود فعلياً داخل أجهزة ومنظومات الاستخبارات الأميركية، وفي الوقت الذي لا تشكك فيه الاستخبارات المركزية وعدد من الأجهزة الخاصة بالدور الروسي في التآمر مع حركة “طالبان” لقتل جنود أميركيين في أفغانستان، فإن وكالة الأمن القومي الأميركية لا توافق على هذه الاستنتاجات!
وبما أن الوجود الأميركي في أفغانستان تحول إلى أحد أكثر المواد حساسية وتأثيراً على مسار السباق الانتخابي، فإن تطورات الأوضاع في هذا البلد والمنطقة قد يكون لها تأثيراتها على نتائج السباق. فاستمرار الهجمات على القوات الاميركية وقوات “الناتو” سواء كان في أفغانستان أو غيرها من دول المنطقة سيكون له التأثير المباشر الأقوى على مصير الانتخابات الأميركية.
ويرى مراقبون أن تزايد التوتر وتفاقم الوضع في أفغانستان يصب في مصلحة معارضي سياسة الرئيس الحالي دونالد ترامب، وهذا ما دفع بحسب تقييمهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للمسارعة إلى التواصل مع نائب زعيم حركة “طالبان” الملا عبد الغني باردار والتأكيد على تطبيق اتفاقيات 29 شباط بين الحركة والقوات الأميركية خصوصاً بما يتعلق بعدم مهاجمة القوات الأميركية.