حرب نفسيّة وعملاء خمس نجوم : ناصر قنديل
تشتغل الحروب الإعلاميّة والنفسيّة على تفكير الناس النمطي المستمدّ من ذاكرتهم العميقة، لتمويه التغييرات التي تكفّلت بإضعاف قدرة القوى الإمبراطورية عندما تتآكل سطوتها. ففي الذاكرة العميقة رافقت القوة والتخطيط والانتصارات صورة هذه الإمبراطورية، وكيّ الوعي الاستباقيّ كي لا يتم التجرؤ عليها وشق عصا الطاعة بوجهها وقد تغيّر الحال، لا يتمّ إلا بإعادة التذكير بالصورة النمطيّة التي تحفظها الذاكرة العميقة للشعوب المستهدفة. وهذا هو الحال مع كل قوة كانت عظمى وتدرك بفعل اختبارات القوة التي عايشتها، انها فقدت قدرة فرض السياسات عن طريق قوة السحق، كما تعجز عن منع نهوض سياسات مناوئة عن طريق قوة الردع، خصوصاً عندما تعرف هذه القوى التي كانت عظمى حتى الأمس أنها لم تعد قادرة على رسم استراتيجية متكاملة لتحقيق أهدافها، لأنها لا تمتلك المقدرات اللازمة لفرض هذه الاستراتيجية، ولا تستطيع امتلاك التوقعات المختلفة لسيناريوات الاشتباك والتحسب لها، ولأن استراتيجيات خصومها تكتفي بمنعها من التقدم تحت عناوين وطنية وأخلاقية تتفوق على عناوينها، ولأن التساكن لا يصلح كاستراتيجية بما يجلبه من تآكل واهتراء، ولأن التسليم بالأمر الواقع الجديد له تداعيات تتخطى نقاط الاشتباك، تصير التجريبية هي الخطة، شرط رسم خريطة حركتها بين حدَّي عدم التسليم وعدم التورط في المواجهة، وتصير لخطط المواجهة التكتيكية مهمة واحدة هي الحرب النفسية للإيحاء بأن كل شيء تحت السيطرة.
– مَن يدقق بكيفية التعامل الأميركي في الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب، رغم كل فظاظة الخطاب، وعنجهيّة الاعاءات، سيكتشف بسهولة أن كل الخطوات التي قامت بها واشنطن في المنطقة، هي جزء من حرب نفسية تهدف للحفاظ على الصورة النمطية للقوة الأميركية، وقدرة التخطيط الأميركي، لكنها تفتقر لوصف الخطة أو الاستراتيجية. فخبرة ولايتي الرئيسين جورج بوش الإبن وباراك أوباما، كافية للجواب عن سؤال حول مدى حدود قدرة القوة العسكرية والعقوبات المالية على تحقيق الأهداف الأميركية، وأن اعتماد جرعات أكبر أو أقل من هذه أو تلك، بين حدَّي عدم التسليم بالأمر الواقع وعدم التورط في مواجهة، لا تشكل خطة ولا ترسم استراتيجية، بل يفضح التقلب بين هذه الجرعات والتراجع عنها ولو بصيغة استثناءات لبعض العقوبات، أو إعلان التعالي عن الوقوع في فخاخ الاستدراج على مواجهات، المنهج التجريبيّ الذي يحكمها لتثبيت التحرك بين حدَّي عدم التسليم بالأمر الواقع الجديد، وعدم التورّط في مواجهات.
– خبرة القوى الفاعلة في ساحات الاشتباك، خصوصاً مربع روسيا والصين وإيران وقوى المقاومة، وفي طليعتها سورية، خلال عشر سنوات مضت، وبلغت ذروتها مع إدارة ترامب، تكفي لتعرف سلفاً أن كل حملات التهويل والتهديد، المرافقة لوضع قانون قيصر للعقوبات على سورية قيد التنفيذ تنتمي إلى هذا التمويه على العجز باللجوء إلى الحرب النفسية، ولذلك كانت قراءة سريعة لنصوص القانون كافية لإدراك أنه كذلك، بل إنه رسالة تفاوضية لصياغة قواعد اشتباك تسعى لفتح الباب للانسحاب الأميركي، مقابل تصفير الخسائر بدلاً من تحقيق الأرباح التي كانت تقف وراء الحروب والعقوبات، كأهداف معلنة، وتصفير الخسائر يتضاءل حجمه وينخفض سقفه من السعي للحفاظ على المكاسب التي حققها حلفاء واشنطن في مرحلة صعود مشروعها، إلى ارتضاء عدم تدفيعهم خسائر فشل المشروع؛ وفي مقدمة هؤلاء كيان الاحتلال، الذي يسعى الأميركي لربط انسحابه بتحصينه بأحزمة أمان على الجبهتين السورية واللبنانية، واللبنانية السورية، يسهل تفكيك رموزها وكشف عناوينها، مهما تزيّنوا بادعاءات مموّهة، أو تخفوا وراء أقنعة مزيفة.
– هذا هو مغزى حملات إعلامية سياسية لبنانية عن معابر غير شرعية مع سورية، ومكافحة التهريب كسبب للانهيار المالي، والدعوات الموازية لتطوير دور اليونيفيل، وفتح ملف سلاح المقاومة، وصولاً لربطه بالمسؤولية عن الأزمة الاقتصادية. وهذا معنى الحديث الأميركي المباشر عن ربط التراجع عن القانون مقابل إشارات بتموضع جديد لإيران وقوى المقاومة في سورية، وتركيز بعض مسمّيات “المعارضة السورية” على هذه العناوين كأهداف لحملاتها الإعلامية والسياسية، وهذا كله ما يسمّيه الأميركيون بدور عملاء الخمس نجوم.