درَاجات الحرق.. والمعارك السياسية محمد شمس الدين
تصاعد وتيرة الفوضى المتنقلة التي تشهدها المناطق اللبنانية لا سيما العاصمة بيروت لا تأتي من فراغ، أو فقط على خلفية ما يشهده لبنان من أزمات اقتصادية بلغت حد الإنهيار في عملته الوطنية ودخله القومي، إنما هي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالأزمة السياسية التي تعصف بالبلد.
“دراجات الفوضى والحرق” التي زحفت إلى وسط بيروت التجاري محطمة المحلات التجارية وواجهاتها وبعض فروع المصارف، كانت تنفذ “أجندة سياسية” يلتقي عندها العديد من الأطراف الداخلية والخارجية، بغض النظر عما إذا كان من هم في الداخل ينفذون مخططاً خارجياً ويعملون لصالحه. إلا أن المصالح الذاتية التي ينطلق منها هؤلاء في إتخاذ قراراتهم تجعل قلوبهم عمياء في تقدير المنزلقات التي قد تنتج عن أفعال يحسبون أنهم قادرين على احتوائها في الوقت الذي يمكن أن تدخل لبنان في المجهول الذي لا أفق له.
الأطراف الداخلية التي دفعت وغذت تحركات “دراجات الفوضى والحرق” انقسمت بين من يخوض معركة حفر موقع له وسط بيئته العائلية والطائفية على خلفية مشروع سياسي ممتد منذ عقود، وبين من له أهداف تتصل مباشرة بمعركة إسقاط الحكومة التي باتت واضحة المعالم وتدور رحاها بين رئيسي الجمهورية وتياره والحكومة من جهة، ورئيس المجلس النيابي و”منظومته السياسية”.. خارج إطار “ثنائيته” مع حزب الله.
في ما يتصل بالقسم الأول، يظهر بهاء الحريري.. الإسم الجديد – القديم في “مناوشات” عائلية كان لها تأثيرها المباشر على الأداء السياسي لشقيقه سعد بعد الإخفاقات الكبرى في وظيفته الرسمية كرئيس سابق للحكومة في أكثر من ولاية، وفي قيادته لتياره “المستقبل” الذي اعتمد كواجهة للحريرية السياسية في تزعم الطائفة السنية كإمتداد لما أسسه “الوالد” رئيس الحكومة الأسبق الذي اغتيل في عام 2005، والذي استعد منذ 1989 للعب دور محوري بدأه فعلياً عام 1992 بعد توليه رئاسة أول حكومة لبنانية له بعد الطائف، في إحداث تغيير استراتيجي في التركيبة السياسية والديموغرافية للمنطقة انطلاقاً من لبنان وسورية. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن المشروع الذي وضعته الولايات المتحدة وقادته مع حلفائها كل من موقعه وقدرته نحو “شرق أوسط جديد“.
أخفق سعد سياسياً وأثبت عدم قدرة على القيادة، وخسر مادياً “خسراناً مبيناً”، في وقت بدأ فيه الرهان على الشيخ بهاء من ذات الجهات التي دعمت الشيخ سعد، فالشخصيات السنية الأخرى لم تتأهل للقيادة وظلت تراوح مكانها وظيفياً في مراكز في الدولة من موقعها في ريادة الأعمال، “فالحريرية” هي الوحيدة على الساحة السنية التي بات لها قضية “عاطفية – طائفية” في وجدان “أهل السنة”، و”قضائية” تستغل في المحافل الدولية، أحدثها اغتيال الشيخ رفيق.
إن المشروع الأساسي الذي انطلق عام 1989 يعتمد استمراره على نفس الجهة التي بدأته وبات مرتبطاً بها ارتباطاً عضوياً. فـ”رجال الأعمال” الذين تولوا رئاسة الحكومة اللبنانية من خارج “العائلة” لم يفلحوا في تظهير أنفسهم كقيادات “سنية” باستطاعتها اللعب على الوتر المذهبي والطائفي بالرغم من انضوائهم ضمن “الحريرية السياسية”، لكن ذلك لم يكن كافياً لـ”شد العصب”.. وهذه هي المهمة التي جاء بهاء من أجلها.. إعادة تكوين “الحريرية السياسية” بما يخدم المشروع.. لقد بات أصحاب ذاك المشروع مقتنعين بأن هذه الطريقة – الفتنة المذهبية – هي التي تخيف حزب الله وتقف في وجهه، لكن يجب تأديتها بشكل أكثر احترافاً.
أما القسم الثاني الذي استفاد من زحف “دراجات الفوضى والحرق”، فقد وجه من خلالها رسائل مقلقة لرئيس الحكومة الذي يظهر عناداً “سلبيا” بأدائه في مواجهة الملفات الشائكة و”الخطرة” لا سيما تلك المتصلة بالفساد والمال العام كما ودائع الناس.. وبمعنى آخر كل ما يتصل بالبنك المركزي وحاكمه الممسك بتلك الملفات التي تهدد مواقع كبرى في الدولة والمجتمع، وهو ما ألمح إليه حسان دياب في آخر خطاب له رفع فيه من مستوى التحدي، بعدما تعثرت كل خطواته في التصدي للضغط عليه بموضوع انهيار العملة الوطنية الذي ظهر أنه سياسي وليس موضوعياً من الناحية الإقتصادية والمالية.. إذن المطلوب رأس دياب واسقاطه لمصلحة الإتيان بحكومة تفهم لغة السياسيين اللبنانيين في تدوير الزوايا والإلتفاف المرن على الملفات والفضائح.
“الهامش” الذي تتحرك فيه “منظومة السياسيين” تستفيد من الوضع الذي تواجهه المنطقة من ضغوطات سياسية وأمنية عنوانها عقوبات مالية واقتصادية على لبنان وسورية في إطار استكمال المشروع الأميركي في المنطقة، وهو ما يوليه حزب الله المستهدف بها الأولوية القصوى ويقدمها على كل ما عداها من ملفات لعلمه بأن حلها بات صعباً في ظل ما وصلت إليه الأمور من انهيارات، وأن اي حل بالنسبة إليه بات مقترناً بتحصين وضعه ورفع مستوى قدرته على مواجهة الآتي من الأعاصير تحت مسميات مختلفة ليس آخرها “قانون قيصر“.
المواجهة المفتوحة بين رئاسة الحكومة ومنظومتها السياسية ورئاسة المجلس النيابي والمنظومة التابعة لها باتت مكشوفة وتنذر بعواقب وخيمة سيكون لها تداعياتها على الأرض، لا سيما إذا ما تم توظيف هذا الخلاف في الهجوم الخارجي الذي يتعرض له لبنان وسورية على خلفية الأسباب التي باتت معروفة للجميع.