لا عقوبات على بري وباسيل ولا ضمّ للضفة: ناصر قنديل
– ينجح الأميركيون بنشر غبار كثيف تتشكل منه المادة الإعلامية العربية، وتبقى لزمن، لا يلبث بعده الغبار عن التبدّد، لينتشر غبار جديد ويدخل الرأي العام العربي في عاصفة غبار متجددة. والمقيمون في واشنطن والمهتمون بما يحدث فيها وما يصدر عنها، يسألوننا، لماذا يقع المحللون العرب ومن ضمنهم المحسوبون على خيارات يفترض أنها مناوئة للسياسات الأميركية في فخاخ توحيل الغبار، فيخلطونه بماء من نهر الوقائع الجارية فتجعله قابلاً للتصديق، ويربطونه بمستنقعات تنتجها حال الركود والفراغ، ليصير الغبار وحلاً، والشائع عن عمليات التوحيل أنها تسعى لرسم معادلة نهايتها أنه، كلما حاول أحد الخروج من الوحل غرق فيه أكثر.
– منذ التداعيات التي خلفتها جائحة كورونا ولا تزال، عالمياً بصورة عامة، وأميركياً بصورة خاصة، وما طال منها الاقتصاد وقطاع النفط بصورة أخصّ، والأميركيون قلقون من تأثيرات سريعة لذلك على مكانتهم السياسية في المنطقة، لإدراكهم أن لهذه التداعيات تأثيرات يدركها بدقة خصوم واشنطن وعلى رأسهم إيران وحلفائها، على المسار الانتخابي للرئيس دونالد ترامب، وسعي لإقامة توازن مع إمكانية استثمار هذه التداعيات لجعل ترامب أشد ضعفاً كلما اقترب موعد الانتخابات، وقد تفاقم هذا القلق مع الأحداث التي شهدتها الولايات المختلفة في إطار الاحتجاجات الواسعة التي أطلقها مقتل المواطن الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد، واتخاذ هذه الاحتجاجات طابع الانقسام الوطني بين تيار مناهض للعنصرية يصب غضبه على سياسات ترامب، وتيار يزداد ضعفاً يقف وراء الرئيس الأميركي، والقلق الأميركي المزدوج من استثمار الخصوم في الداخل والخارج لهذه الأحداث المتمادية والمتواصلة في تأثيراتها، لا يمكن تبديده بخطوات ومبادرات هجومية، خصوصاً على الصعيد العسكري، الذي بات محكوماً بمعادلة السعي للتهرب من كل استحقاق مواجهة، وقد جاءت المبادرة الإيرانية الهجومية بإرسال ناقلات نفط تخترق نظام الحصار والعقوبات على إيران وفنزويلا، والعجز الأميركي عن التصدّي لها، لتبت هذه المعادلة وتمنح هذا القلق الكثير من المشروعيّة.
– يقول العارفون بالداخل الأميركي، إن الأزمات التي حملتها تداعيات كورونا، ليست حكراً على أميركا، وما فعلته في المجتمع والاقتصاد الأميركيين، أنها ضخمت وظهرت إلى السطح بقوة، أزمات كانت غائرة في قعر المجتمع، ومشاكل مالية واقتصادية بنيوية كانت تختفي وراء سرعة الحركة والمداولات، وأنه من الطبيعي أن يحدث الشيء نفسه لدول ومجتمعات أضعف من الدولة والمجتمع الأميركيين، وهذا هو الحال مع ما يجري في إيران وسورية والعراق ولبنان وسواها من دول العالم، التي كشفت تداعيات الجمود الاقتصادي المرافق لكورونا، مشاكلها وضخمتها وعمّقتها وظهرتها إلى السطح، ولذلك يسعى صناع السياسة في واشنطن لمنح سياسة العقوبات جائزة لا تستحقها بنسبة كل ما تشهده دول ومجتمعات خصومهم لهذه العقوبات. فالعقوبات التي تطال أفراداً ومؤسسات في هذه الدول لا تقدم ولا تؤخر في الاقتصاد المعاقب بما هو مهم وبالأهم أصلاً، ومنذ سنوات، سواء لجهة منع تصدير النفط الإيراني والسوري، أو ملاحقة التحويلات المالية للاغتراب اللبناني، أو منع فتح الاعتمادات المصرفية للاستيراد لحساب السوقين الإيراني والسوري، والضغط على العراق ولبنان لفصلهما عن هاتين السوقين الإيرانية والسورية، وكل جديد لا يعدو كونه طلقة صوتية بلا مفعول في غير السياسة، إلا إذا صدق المعنيون في هذه الدول والمجتمعات أن ما تسببت به أزماتهم التي كانت تحت السطح وظهرت بقوة مع تداعيات كورونا هي من نتاج العقوبات الجديدة، والتي هي في الغالب لم تفرض بعد.
– يتوقف العارفون بالداخل الأميركي، أمام نماذج مما هو رائج عربياً هذه الأيام، أولها ما يجري تسويقه حول قانون قيصر للعقوبات على سورية، فيقولون اقرأوا القانون أولاً وستكتشفون بسرعة أن كل ما ينسب إليه من جبروت في تدمير الاقتصاد السوري مبالغات إعلامية، لأن ما يمكن معاقبته لضرب الاقتصاد السوري قد عوقب منذ زمن، والقانون هو ورقة سياسية للضغط على موسكو ودمشق لحجز مقعد للجماعات الكردية المحسوبة على واشنطن في قطار التسوية السياسية، بشروط ترفضها دمشق لاتصالها بالمساس بوحدة سورية ومفهوم السيادة فيها. والقانون بالتوازي محاولة التوصل لصيغة توافقية مع دمشق وموسكو في جنوب سورية تمنح بعض الاطمئنان لكيان الاحتلال، تسهيلاً لجعل الانسحاب الأميركي من سورية، مرتبطاً بوفاء واشنطن بقدر من وعودها لكل من الجماعات الكردية وكيان الاحتلال، بأنها لن تتركهم يواجهون قدرهم، في مواجهة معادلات لا يقدرون على مواجهتها وحدهم.
– النموذج الثاني الذي يتحدث عنه العارفون بالداخل الأميركي، هو ما يكثر الحديث عنه عن ربط العقوبات بمسعى للتغطية على تمرير ضم الضفة الغربية من جانب حكومة كيان الاحتلال، كترجمة للوعود التي تضمنتها صفقة القرن، ويقول العارفون إن واشنطن وتل أبيب تدركان حجم المخاطرة التي ستنجم عن إجراءات الضمّ التي تطال 40% من الضفة الغربية، وفقاً لنصوص مشروع صفقة القرن، لأن الخاسر الرئيسي فيها سيكون الفريق الفلسطيني الذي أقام برامجه على مفهوم التفاوض وخيار التسوية، بتبخّر آخر أحلامه بعودة لاحقة للفرص أمام مسارات تفاوضية نحو التسوية، والمعني هنا هي حركة فتح والسلطة الفلسطينية، اللتان ستجدان نفسيهما أمام اضطرار التصعيد الذي يعني انتفاضة ثالثة كبرى يصعب أن تنتهي في العديد من نقاط الضفة الغربية إلى غير ما انتهى إليه مسار الانتفاضة الثانية من تحرير غزة، وما يعنيه ذلك من تفكك الجغرافيا العسكرية للكيان، وخلق تحديات استراتيجية جديدة فوق طاقته، ولذلك فكل السعي الأميركي منصبّ على توزيع أدوار مع حكومة بنيامين نتنياهو، لمقايضة التراجع عن قرار الضم بالمزيد من إجراءات تطبيعيّة مع حكومات الخليج، التي ستصيبها إجراءات الضمّ كما تصيب القيادة الفلسطينية في طرح الأسئلة حول جدوى الخيار التفاوضيّ، ويقول العارفون إن السقف الذي يجري الحديث حوله بين واشنطن وتل أبيب للضم المفترض انخفض من 40% إلى 3% وربما ينخفض أكثر ليقتصر على عدد محدود من المستوطنات، وربط اعتباره نهائياً بنتائج أي مفاوضات مقبلة.
– النموذج الثالث الذي يتحدث عنه العارفون بالداخل الأميركي، هو التسريبات التي تطلق منذ مدة حول نيات فرض عقوبات على حلفاء حزب الله، خصوصاً كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ويقول العارفون إن الترويج لهذا التهويل يثير السخرية عند صناع السياسة في واشنطن، الذي لا يصدقه إلا بعض الذين يرددونه في لبنان والعواصم الخليجية، فواشنطن تدرك أنها تحتاج لبقاء خيوط العلاقة وخطوطها مع بري وباسيل، لأنها لا تريد الخروج من لبنان، وترك حزب الله يتفرد بالقرار مع حلفاء خسروا مثله ما يجعلهم ينتقلون معه إلى السياسات الراديكالية. والقضية المحورية التي تهم واشنطن ليست اليوم سلاح حزب الله الذي يفوق ما تتيح به المعادلات، ويتسلى بعض النشطاء المغرومين بواشنطن بجعله عنواناً لإرضائها، ولا قطع العلاقة اللبنانية بسورية، التي يحتاجها الأميركيون تحت نظرهم مصدراً لمنح لبنان بعض شروط الحصول على أوكسيجين قليل الكلفة، لأن الاهتمام الأميركي لبنانياً له محور واحد حالياً هو ترسيم الحدود البحرية للنفط والغاز، وهذا ما ستظهره مفاوضات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي قريباً، والسعي الأميركي بتوظيف التلويح بالعقوبات على بري وباسيل يتمحور حول دعوة باسيل لطلب تسلم ملف التفاوض تحت عنوان نقل المرجعية التفاوضية إلى رئاسة الجمهورية، ودعوة بري للتخلي عن الإمساك بملف التفاوض، أملاً بالحصول على فرص أفضل لترسيم يريح كيان الاحتلال، قبل الانسحاب الأميركي من المنطقة، ويمكن تمريره لبنانياً تحت شعار الحاجة اللبنانية لتقديم موارد سيادية واعدة يمكن لصندوق النقد الدولي الاستناد إليها لتبرير تقديم المساهمة التي يطلبها لبنان.
– يوجز العارفون بالداخل الأميركي خلاصتهم بالقول، سيكتشف الجميع خلال فترة قريبة أن قانون العقوبات على سورية هامشي الأثر، لكنه سيبقى سيفاً مشهراً للتهويل، وأن ضم الضفة الغربية سيتحول إلى إخراج هوليودي ضعيف بهوامش إعلامية لا أكثر ولا أقل لكن بجوائز تطبيعيّة، لكن الضم لن يسحب من التداول، وأن العقوبات في لبنان قد تطال أسماء سيضحك اللبنانيون عندما يسمعون أنها حصيلة حملة التهويل فتبقى الأسماء الكبيرة في التداول، لأن الهدف سيبقى وهو إبقاء عاصفة الغبار مستمرة وإبقاء الباب مفتوحاً للتهويل والتوحيل، هنا وهناك وهنالك. ويختم العارفون بالقول، إنه لو يترك أهل المنطقة الغبار الأميركي غباراً، ويكفون عن توحيله سواء بنيات حسنة وسيئة، لنقلته التيارات الهوائية بعيداً، ولما بقيت منه إلا بعض الذرات التي يسهل مسحها عن سطوح الطاولات وزجاج النوافذ.