رؤية مستقبليّة للبنان: من السيادة المفقودة إلى التشبيك الإقليميّ: زياد حافظ*
بعد الاحتفال بالذكرى العشرين لتحرير جنوب لبنان لا بدّ لنا من وقفة تأمّل حول المستقبل. الفضاء الإعلامي والسياسي مليء بالتحليلات والتشريحات لمجموعة من المراقبين والمحللين والسياسيين السابقين واللاحقين والمتأمّلين بموقع ما والخبراء الاستراتيجيّين وكافة أطياف الألقاب المقرونة بهم يرسمون واقعاً ومستقبلاً قاتماً يصل عند العديد منهم إلى التلذّذ بجلد الذات تحت عباءة “الواقعية” و«الموضوعية”. فهذه النعوت لا تعنينا لأنها دعوة للتخلّي عن العقل والاكتفاء بالقدر المفروض علينا. فـ “الموضوعيّة” و«الواقعيّة” مفادهما أن لا مجال لمواجهة الغطرسة الأميركية وهيمنتها على العالم، وأنّ القوى الصاعدة الطامحة للحدّ من تلك الهيمنة ما زالت ضعيفة وأنها في ساعة الحسم ستقدّم التنازلات أمام السيّد الأميركي رغم كلّ الدلائل التي تقول عكس ذلك. وكذلك الأمر بالنسبة للمستقبل الاقتصادي للبنان فلا بدّ من تجرّع الكأس المرّ الذي يمدّه صندوق النقد الدولي. الطريف هنا هو أنّ أحد “المسؤولين” في الصندوق “يتوقّع” اضطرابات اجتماعيّة من جرّاء الانكماش الاقتصادي الذي سيصيب لبنان والمنطقة أجمع!
لسنا هنا في إطار تفنيد تلك التوقعات بل لعرض رؤية مستقبلية للبنان من “الواقع” وبـ “موضوعية” لا تقلّ عن تلك الموجودة عند المدّعين بـ “الواقعية” و«الموضوعية”. فكافة التحليلات لا ترى إلاّ الجانب السلبي والقاتم وكأنه أزلي سرمدي لن يزول. كان ذلك التفكير سائداً عندما كان الكيان الصهيونيّ محتلا معظم الجنوب اللبناني وأن لا حول ولا قوّة إلاّ بالله. فخروج “إسرائيل” كان رهن تنفيذ اتفاقية 17 أيار أو ما يعادلها ولكنها سقطت بفضل رفض الشعب اللبناني بأكثريته رغم وجود من كان يستعين بالعدو الصهيوني. لكن في آخر المطاف خرج العدو من لبنان بدون تفاوض، بدون اعتراف، وبدون صلح. لاءات الخرطوم نفّذت فقط في لبنان!
لكن ما زالت سيادة لبنان منقوصة. فلا سيادة جغرافية كاملة على كامل التراب اللبناني حيث العدو بقي محتلاً بضع قرى في الجنوب، كما أنّ الأجواء اللبنانية ما زالت تُخترق بشكل مستمرّ لاستهداف سورية. لكن لم يعُد يتجرّأ العدو على استهداف لبنان فتوازن الردع موجود بسبب حرص وجهوزيّة المقاومة التي يريد بعض اللبنانيين نزع سلاحها. فلا كلامَ لهم عن الانتهاكات الجوّية، ولا كلامَ لهم لاسترداد الأرض، ولا كلامَ لهم لتمكين الجيش اللبناني بالتسليح الرادع. فهذا مرفوض من قبل القوى المهيمنة الغربية والتي تمنع الحكومات اللبنانيّة المتتالية من التوجّه إلى الشرق لتزويد الجيش اللبناني بما يلزم للحفاظ على السيادة اللبنانية الجغرافية. فما زالت النخب الحاكمة عاجزة عن كسر احتكار السلاح من قبل دول الغرب وذلك خدمة للكيان الصهيونيّ. هؤلاء ما زالوا يعتقدون أنّ هناك إمكانيّة للتعايش مع الكيان ومنهم مَن لا يعتبر الكيان عدواً! هذه رواسب عقلية التعصّب وعقدة الخوف التي تقابلها عقدة الغبن وعقدة قوّة لبنان بضعفه!
الأزمة الاقتصاديّة أسبابها عديدة ناتجة عن خيارات عبثية وسياسات خاطئة لا داعي لتردادها. وهناك أيضاً عامل الفساد المؤسّسي والمستشري في بنية النظام السياسيّ اللبنانيّ الذي يقوّض محاولات الإصلاح الاقتصادي الجدّي. لكن الأخير يمكن أن يتحقّق بسهولة أكبر من الإصلاح السياسي المنشود رغم عائق الفساد ورغم عائق البنية السياسية في لبنان. فالفساد لا يُعالَج عبر إلقاء القبض على الفاسدين طالما هناك نظام سياسي يُعيد إنتاجه. هذا لا يعني تركهم أحراراَ بل العكس يجب تسميتهم والتشهير بهم حتى يتحرّك القضاء ويلاحقهم. لكن هذه معالجة للنتائج فحسب وليست للأسباب. فتحرير لبنان من الفساد يبدأ بتحرير النظام القائم من الطائفية والمحاصصة. وهو مشروع طويل المدى نسبياً لا يقلّ في صعوبته عن تحرير الأرض من الاحتلال الصهيونيّ. فتحرير النظام السياسي من الطائفية يعني تحرير العقل والذهنية الناتجة عنه، وهذا عمل يتطلّب مجهوداً طويلاً ومتواصلاً خاصة أنّ العامل الإقليمي والدولي يلعب دوراً أساسياً في بقائه. فلذلك نفصل مسار إصلاح النظام وكبح الفساد عن مسار الإصلاح الاقتصادي من دون التخلّي عنه.
الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان لها حلول. والحلول ليست بالمرارة التي تستدعي التقشّف المنشود من قبل صندوق النقد الدوليّ. لكنها لا تدعو إلى استمرار ثقافة الإنفاق والهدر على الصعيد العام كما على الصعيد الخاص، ونقصد هنا الاستيراد للكماليات التي يمكن إيجاد بدائل لها وطنياً، كما نقصد التخفيف في استهلاك السلع التي لها مظاهر الترف والبحبوحة كالسيارات الفخمة والعاملات في المنازل إلخ… المطلوب فقط هو التوازن والاعتدال.
فمقاربة الأزمة المالية والاقتصادية تستوجب ثلاثة مسارات متوازية: الأولى هي إعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني عبر تحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي. وقد حدّدنا في مقاربة سابقة مفهومنا لمضمون ذلك التحوّل الذي يعتمد إيقاف مصادر الريع فوراً عبر تخفيض الفوائد على سندات الخزينة وإلغاء الوكالات الحصرية التي تشرعن الاحتكارات التي تنتج الريع. كما أنّ تشجيع القطاعات الإنتاجيّة التقليدية والتركيز على النشاطات صاحبة القيمة المضافة هي المحور الثاني في تثبيت اقتصاد إنتاجيّ. أما المسار الثاني في الإصلاح المالي فيعتمد على إعادة هيكلة الدين العام وإعادة هيكلة القطاع المصرفي كما تمّ شرحه في العديد من المقالات والمداخلات السابقة لا داعي لتكرارها.
المسار الثالث هو التشبيك الاقتصادي مع دول الجوار كسورية والعراق والأردن والجمهورية الإسلامية في إيران وحتى تركيا بعد تصحيح سياساتها تجاه سورية. التشبيك الاقتصادي هو القرار الاستراتيجي الداعم للتحوّل الإنتاجي عبر توسيع رقعة السوق للسلع والخدمات اللبنانية، بل هو أيضاً الردّ الاستراتيجي على كافة محاولات محاصرة لبنان مالياً واقتصادياً من قبل الولايات المتحدة وذلك خدمة للكيان الصهيوني. فالتشبيك الاقتصادي يحرّر إلى حدّ كبير لبنان من التبعية للدولار والإملاءات الأميركيّة حيث التبادل التجاري بين لبنان ودول الجوار يكون بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار وربما مع تسهيلات في المدفوعات تجاه لبنان ليست متوفرة إذا ما استمرّت التجارة البينية مبنية على الدولار.
والتشبيك الاقتصادي سواء في البنى التحتية المشتركة كسكك الحديد مثلاً أو أنابيب النفط والغاز أو شبكة الطاقة الكهربائية على سبيل المثال سيخلق بحدّ ذاته دينامية اقتصادية مستقلة عن التطوّرات الداخلية في كلّ بلد كما أنه سيخلق فرصاً للعمل وللاستثمار غير ممكنة مع ضيق الرقعة الاقتصادية القائمة. ولكن الأهمّ من كلّ ذلك، فإنّ التشبيك الاقتصادي هو أيضاً ضمانة للسيادة الوطنية. فالتشبيك يجعل لبنان جزءاً من محور له مقوّمات الحماية والصمود بينما الواقع الحالي لا يوفّر ذلك. لا يجب أن يغيب عن بال المشكّكين بأنّ الكتلة الجغرافية والكتلة السكّانية التي تشكّلها دول التشبيك تجعلها قوّة اقتصادية ومالية تحيّد في الحدّ الأدنى إنْ لم تلغ دور العقوبات الاقتصادية ومحاولات الحصار. كما أنّ علاقة متنامية مع دول الكتلة الأوراسية تجعل أمن المنطقة السياسي والعسكري والاقتصادي في موقع قوّة لا يمكن الاستهانة بها. فالتشبيك الاقتصادي يعزّز السيادة الوطنية أمام مطامع العدو الصهيوني وغطرسة الولايات المتحدة في سلوكها الحالي تجاه لبنان. فطريق الخلاص واضح، والمطلوب هو القرار فقط.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.
(البناء)