معادلات جديدة للسيد نصرالله ـ 2 ـ خريطة طريق للتغيير: إلى الانتخابات درْ: ناصر قنديل
– ربما يكون لتزامن هذه الحلقة من سلسلة المقالات حول معادلات السيد حسن نصرالله الجديّة، مع مشهد الجلسة النيابية معنى، حيث ظهر المشهد السياسي اللبناني عارياً من أي رتوش، بما هو مشهد “الشعوب اللبنانية”، كما وصفه السيد نصرالله في حواره الأخير مجازاً، للإشارة إلى المعاني المختلفة للقضايا باختلاف البيئات السياسية والطائفية التي يتم تناولها فيها، وحيث فكرة المقاربة للقضايا على أساس المواطنة، لا تزال رهينة تفكير أقلية بين اللبنانيين، الذين لا زالت زعاماتهم تتمكن من مخاطبتهم عبر العلبة الطائفية وشدّ عصبيتهم من خلالها، رغم كل المخاطر التي تحيط بمستقبل لبنان واقتصاده وسيادته، وحجم التحديات التي يستدعي الحديث عن قيام دولة حقيقيّة والتصدي لها، ما يعني بوضوح أن اللحظة التي التقى فيها الحشد اللبناني فوق الحواجز الطائفية تحت تأثير الغضب الاقتصادي والاجتماعي في 17 تشرين، لم تكن تعبيراً عن مغادرة النظرات المتعددة بتعدد الهويات الفئوية التي ينقسم حولها اللبنانيون، وسيكون مخادعاً توهم أن هذه اللحظة هي نداء شعبي لخلاص من الزعامات الطائفية، في ظل ازدواجيّة التعامل اللبناني بين الهوية الوطنية الجامعة والهوية الفئوية القائمة على أساس الانتماء إلى العلبة الطائفية.
– الدعوة للتغيير موجودة لدى أغلبية لبنانية كاسحة هذا صحيح، ولم يتغيّر هذا التطلّع للتغيير الذي ظهر في 17 تشرين، لكن مفهوم التغيير، كمفهوم الفساد ومكافحته، يختلطان عند اللبنانيين بمفهومهم عن هويتهم الملتبسة بين الوطني والطائفي، ومثلما صار شارع 17 تشرين شوارع، دعوة التغيير دعوات، ومكافحة الفساد مكافحات، وهي في غالبها تعني في حال تمكن إحداها من امتلاك قوة التسيّد والسيطرة، مشروع حرب أهلية. وهذه المفردة التي بدت حاضرة كتحذير مكرر في حوار السيد نصرالله، تستمدّ معناها عندما نتخيّل استجابة حزب الله لمعسكر من معسكرات دعاة التغيير، ومكافحة الفساد، والشوارع، وكل منها يرى الفساد خارج طائفته، ويرى التغيير بتعديل التوازنات لحساب زعامته، فمَن يرى القضية بإطاحة العهد، ومَن يرى القضية بإنهاء الحريرية السياسية، لا يلتقيان على دعوة تغيير واحدة، والذين يقفون خارج هذه الاصطفافات ومثلها لا يمثلون الكتلة التاريخية اللازمة لتغيير الموازين الشعبية الحقيقية اللازمة للحديث عن تغيير ناضج، وهم في غالبهم شوارع صغيرة أيضاً وليسوا شارعاً واحداً، ونظراتهم للدولة ومشروعها وقضايا ليست واحدة، فكيف ينضج التغيير؟
– عرفت المنطقة تجربة مليئة بالآمال والآلام اسمُها “الربيع العربي”، وكان عنوانها تطلّع الشعوب نحو التغيير، ولا يستطيع قائد تاريخي وسياسي بحجم ما يمثل السيد نصرالله مقاربة قضية التغيير من دون أخذ عبر هذه المرحلة ودروسها ونتائجها بالاعتبار، وقد قالت بوضوح إنه مهما بلغ حجم الغضب الشعبيّ، فإن التغيير المنشود لا يتحقّق من دون روزنامة متفق عليها، وقيادة مجمع حولها، وإلا فإن الغضب المتفجر سيكون عرضة للسرقة والتلاعب، ومفتوحاً على مخاطر الفتن والفوضى، وفي حالة لبنان يجب ان يكون المشروع والقيادة عابرين للطوائف، ويجب أن يجسّدا إجابة على أسئلة الدولة اللبنانية، وليس فقط أسئلة لحظة الغضب، فالذين يتصدّون لمهمة التغيير معنيون بتسلم السلطة، فهل هم متفقون على ماذا سيفعلون بالدستور الطائفي؟ وماذا سيكون موقفهم من تحدي الاحتلال والعدوان؟ وما هي نظرتهم للعلاقة بالجوار العربي انطلاقاً من سورية، وأي اقتصاد يريدون أن يكون لدولتهم؟ وهذا يعني أن ما شهدناه من غضب ليس علامة نضج قضية التغيير بل واحدة من إرهاصاته، يصير لها قيمة بمقدار ما تفرز نخباً وقيادات تملك وزناً متعاظماً في الشارع، وفي حالة لبنان تملك أوزاناً في الشوارع، فتهزّ عروش القيادات السائدة، وتلتقي فيما بينها على مشتركات تتيح لها قيادة موحّدة لشؤون الدولة، والشرطان غير متوفرين بعد، فلا ثمّة قيادات وازنة صاعدة في الشوارع اللبنانيّة، وما يظهر منها لا تجمعه مشتركات تتيح الحديث عن تبلور فرصة تشارك في مفهوم موحّد للدولة.
– ولادة هذا المسار التاريخيّ للتغيير وفقاً لرؤية السيد نصرالله لا تتمّ في الشارع، ولا في لحظة غضب، ولا تتحقق نهاياتها بكبسة زر عنوانها، فلينزل حزب الله ويحسم الأمر، بل عبر البناء التراكمي الذي لا يمكن قياس نموه وحجم تأثيره. والرهان على تأسيسه لمسار جديد في الانتخابات النيابية. وفي الانتخابات نكتشف حجم التغيير الذي يتحدث عنه البعض في اصطفاف الشارع أو الشوارع. فالناس الذين يُقال إنهم أغلبية كاسحة من اللبنانيين تريد التغيير، وتطالب حزب الله بالتحرك، ستكون أمام فرصة تاريخية لتعبر عن هذا التوق والتطلع من خلال الانتخابات، وعندها يمكن مساءلة حزب الله عن موقفه، وتاريخ لبنان حاضر أمامنا، حيث كان كل تغيير ولو نسبي في المزاج الشعبي يجد تعبيره الانتخابي، ففي مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، نجحت بدايات نهوض الحركة الوطنية بإيصال عدد من النواب إلى البرلمان، وفي كل الطوائف والمحافظات، وكانت كل التقديرات أنه لو جرت انتخابات نيابية عام 76، في موعدها، لكان هذا العدد تضاعف مرات ومرات، وربما يكون أحد أهداف الحرب قطع هذا المسار، وهذا لن يتكرّر، لأن مهمة حزب الله هي هنا في رعاية التغيير، بأن يشكل سداً منيعاً بوجه خطر الحرب مرة أخرى. وفي التجربة التي توقف أمامها السيد نصرالله للإمام الصدر، مثال تتويج النهوض الشعبي الذي تخطى مراحل الغضب الراهن، بالإجماع وراء مشروع وقيادة، وترجم حضوره في انتخابات فرعية في النبطية الحق خلالها الهزيمة بالإقطاع السياسيّ. وهذا يعني أنه حتى في ظل قانون سيئ وسلطة سيئة لا يمكن إخفاء نبض التغيير المتبلور، إلا بالحرب، التي يحسب لحزب الله حرصه على تفاديها وسعيه لتفكيك ألغامها، وجعلها خطاً أحمر يملك قوة كافية لمنع مجرد التفكير بها، وحكمة كافية للامتناع عن الانزلاق إليها.
– الانتخابات في ظل قانون سيئ وسلطة سيئة، ليست هي المطلوب طبعاً، فمن يتابع رؤية السيد يعرف ان الانتخابات المعطوفة على تحسين ورفع مستوى صحة التمثيل، ووطنية التمثيل، هي الوصفة التي تجعل فاتورة التغيير قابلة للاحتمال. فالسعي لإدارة انتخابية تقفل طرق الرشى والتلاعب يجب أن يكون هدفاً، والسعي لقانون انتخابي يشجع الحياة السياسية والاصطفاف على أساس البرامج وليس وفق العصبية الطائفيّة، يجب أن يبقى على رأس جدول الأعمال، وهذه التزامات واضحة ومكرّرة في رؤية السيد، لجهة فهم دور حزب الله في عملية التغيير، وتعامله مع منتجات ومخرجات عمليات تغييرية سابقة في الشوارع اللبنانية، بغض النظر عن تقييم قواها الحالي بنظر مَن يعتبرون أنفسهم اليوم دعاة تغيير، تقول إن رؤية السيد هي تعبير منهجي عن فهم عميق للقضية، فاللقاء التشاوري والتيار الوطني الحر، ثمرتان واضحتان لاستبدال نسبة وازنة من الشعب اللبناني لقياداته بنسب متفاوتة. وقد قاتل حزب الله لمنحها فرصة التمثيل النيابي، سواء عبر رفع سوية إدارة العملية الانتخابية بعيداً عن التزوير، أو عبر تحسين شروط التمثيل في القانون الذي اعتمد النسبية، والأكيد أنه لو تكرر المشهد بقيادات جديدة، تحمل مشروعاً جدياً لبناء الدولة، فلن يكون حزب الله بعيداً عنها، وسيوفر لها الحماية اللازمة، بالمفهوم القانوني للعملية الانتخابية.
– الساعون للتغيير بصدق، يجب أن يدركوا أن ما يحق لهم على حزب الله، وفقاً للرؤية التي قدمها السيد نصرالله بوضوح هذه المرّة، هو أولاً سعي دائم لقانون انتخابي خارج القيد الطائفي وفقاً للنسبية ولبنان دائرة واحدة، يشجع المواطنة، ويتخطى العصبيات، ويفتح طريق التنافس السياسي على أساس البرامج، وثانياً السعي الدائم لرفع مستوى إدارة العملية الانتخابيّة لمنع تأثير المال واللعب بدور الإعلام، في الانتخابات، لتكون في أعلى ما يمكن من النزاهة والشفافية، وثالثاً أن يبقى حزب الله الضامن لمنع الانزلاق لحرب أهلية تقطع مسار التغيّر مرة أخرى، والأهم من المهم هنا هو أن يبقى الحزب نفسه محصناً ضد محاولات استدراجه إلى هذا الفخ، لكن هذا لا يُعفي المطالبون بالتغيير من مسؤولياتهم، بإظهار القدرة على اختراق المشهد الانتخابي، والتوحد حول رؤى واضحة لماهية الدولة المقبلة، ولو في ظل قانون انتخابي سيئ، شرط أن لا يتراجع حزب الله عما يتهم به من وقوع تحت تأثير “فوبيا الحرب الأهلية”، لأنها الخطر الوحيد الحاضر والقاتل لكل مشروع تغير، خصوصاً إذا نجح الآخرون باستدراج حزب الله إلى كمائنها وفخاخها.