معادلات جديدة للسيد نصرالله – 1 – خريطة طريق لنهاية كيان الاحتلال: ناصر قنديل
– فاض حجم وعمق المعادلات الجديدة التي رسمها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في حواره الأخير مع إذاعة النور، بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، عمّا تتسع له إطلالة واحدة، وربما ساعد في هذا الكرم التحليلي والاستراتيجي، سياق الحوار الذي أدارته بكفاءة ومهنيّة الإعلامية بثينة عليق، وعلى أهمية محاور التدفق لمعادلات السيد، يبقى أهمها ما يتصل برصده ورسمه لخريطة طريق تنتهي بنهاية كيان الاحتلال، في توظيف مدروس لتراكم فائض القوة لدى المقاومة، وتبلور محور المقاومة كجبهة موحدة تستعدّ لما أسماه بالحرب الكبرى، وفي حلقات مقبلة تحت العنوان ذاته سيتسع المجال لتتبع معادلات السيد الجديدة التي ترسم خريطة طريق التغيير، وتلك التي ترسم خريطة طريق مكافحة الفساد، وتلك التي ترسم خريطة طريق التحالفات، لتكون معادلات السيد التي كشفها، إجابة عن سؤالين كبيرين، هل يتعامل حزب الله مع المتغيرات بالقطعة، أم أن لديه تصوراً إجمالياً للسياقات المتوقعة والتعقيدات والتحديات والفرص والسيناريوات والبدائل، لبلوغ أهداف اتخذها لنفسه ويسعى لتحقيقها، والثاني هل ثقة حزب الله بالنصر ونهاية كيان الاحتلال هي مجرد امتداد ليقينه الإيماني الديني، أو مجرد ترجمة لما يسمّيه السيد بالسنن التاريخية والموضوعية كما كانت عام ولدت المقاومة، أم أنها هذه المرة قراءة في وقائع ومستجدات تعني السياسي وليس الإيماني والتاريخي فقط، السياسي بما يتضمنه من استراتيجي وعسكري واجتماعي، لوقائع ومستجدات وتوازنات ومعادلات تقول إننا بلغنا تلك النقطة الفاصلة في مأزق الكيان، حيث لا عودة للوراء ولا قدرة على التقدم إلى الأمام، وحيث الطرق مسدودة لخيارات الخلاص من الفخ التاريخي المحكم؟
– سبق لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن تحدثت عن مستقبل قاتم لكيان الاحتلال، في كلمتها أمام منظمة آيباك في آذار 2010، واضعة شرطاً للخلاص من هذا المستقبل القاتم، هو خطوة دراماتيكية شجاعة نحو عرض للتفاهم مع السلطة الفلسطينية برعاية عربية ودولية، قابل للتسويق وغير قابل للرد، واستندت كلينتون يومها إلى أربعة تحولات كبرى شهدها واقع الكيان والبيئة الاستراتيجية المحيطة به، الأول نضوب موارد الهجرة، وبدء تحرك ميزان الديمغرافيا في فلسطين 48 وفلسطين التاريخية بعكس رغبة قادة الكيان ومشروع مستقرّ لدولة يهودية، والثاني نهاية زمن الحروب الخاطفة التي كانت شكل الحرب الوحيدة التي تنسجم مع طبيعة الكيان ومساحة سيطرته الجغرافية وواقعه الاقتصادي والسكاني، والثالث سقوط فرص تحقيق نصر حاسم في الحروب، بما يعني سقوط فرص الردع والمهابة وما يتيحان من مجال للتفاوض من موقع قوة، والرابع ضمور وتراجع القدرة السياسية والشعبية لخيار التفاوض على الساحة العربية وعجز أصحاب هذا الخيار عن تقديم أي نموذج مغرٍ للشعوب بسلوكه، مقابل إنجازات ملموسة لقوى المقاومة بعيون شعوبها عنوانها القدرة على التحرير يقدّمها نموذجاً جنوب لبنان وغزة، وقد جاء كل ما بعد قراءة كلينتون، ليقول خصوصاً مع مضمون العرض الذي حملته صفقة القرن، أن قيادة الكيان ومعها واشنطن تصيران أبعد فأبعد عن خشبة الخلاص التي تضمنتها وصفة كلينتون، كما جاءت تطورات الحرب على سورية، لتقول إن مصادر المأزق وأسباب التنبؤ بالمستقبل القاتم باتتا أكثر عمقاً وجذرية لجهة سقوط فرص الحرب الخاطفة والنصر الحاسم.
– يدخل السيد في قراءة وصياغة قانون حربه من كلمات إيهود باراك في الذكرى العشرين لانتصار المقاومة وتحرير الجنوب، وباراك هو رئيس الاستخبارات حتى عام 91 ثم رئيس للأركان حتى عام 95 فوزير للخارجية ورئيس للحكومة التي قرّرت الانسحاب من جنوب لبنان. وفي رواية باراك التي نشرتها صحيفة معاريف، أنه ما بين عامي 85 و99، أي بين توليه شعبة الاستخبارات (أمان) وتوليه رئاسة الحكومة، تشكلت مرحلة صعود جيل ضباط حربي 67 و73 إلى الواجهة السياسية، ضمن مشروع واضح عنوانه انتزاع قرار الحرب والسلم من أيدي السياسيين، ويقول باراك «كان في الحكومة تمثيل قوي لجيل 67 و73، أناس قاتلوا من أجل الدولة ووصلوا إلى المصاف الأول للحكم. والوعي الذي تكرّس عندي في ميادين القتال كان أنه محظور السماح بتكرار ما حصل بين الأيام الستة وقصور يوم الغفران، ويُضيف كان في الحكومة أمنون ليبكن، إيتسيك مردخاي، أفرايم سنيه وأنا. أربعتنا كنّا مع قادة الميدان في الغفران. أربعتنا قاتلنا في المزرعة الصينيّة، في تلك المعركة وفي المكان ذاته. كلنا كنا متأكدين في وعينا من أنه محظور تكرار قصورات العمى والمفهوم المغلوط الذي ميّز القيادة السياسيّة للحرب ذاتها. غيلي شير وداني ياتوم هما أيضاً قاتلا هناك. سيكون دقيقاً القول: إنه في المستوى العميق كنا هناك بقدر كبير بسبب تجربة حرب 73. حاجتنا للدخول إلى السياسة نبعت من الوعي الذي تبلور فينا في 73 كقادة ميدانيين. أنت تدفع ثمناً، تقاتل من أجل الحياة والموت في دونيّة تكتيكيّة، نتيجة لقرارات استراتيجية وسياسية غير مبررة. وذلك حين كان ممكناً دحرجة الأمور بشكل آخر والوصول في شروط أفضل بكثير إلى الحرب أو إلى ألا تكون حاجة إلى الحرب على الإطلاق». وهذا يعني عملياً أن الجيش الذي اكتوى بنيران الحروب قد سئم ألاعيب السياسيين، وما سينتج عنه في مجالي السياسة والحرب هو سقف ما يستطيعه الكيان في كليهما، وهو الذي سيرسم السقف الاستراتيجي لمستقبل الكيان، في التسويات والحروب.
– الحرب التي خاضها الكيان في لبنان هي آخر حرب يخوضها جيشه، وأطول حرب يخوضها، وأشدّ الحروب تعقيداً بين حروبه، ولذلك فالنتيجة التي سترسو عليها نخبة جيش الكيان في صياغة التعامل مع هذه الحرب هو الذي سيرسم ذلك السقف الاستراتيجي لمستقبل الكيان، الذي تؤتمن عليه تاريخياً هذه الحكومة، ووفقاً لقراءة باراك لهذه الحرب، فهي بكلماته «مواجهة مع منظمة ما كان يمكن تصفيتها! حزب الله حركة مقاومة اصيلة توجد داخل القرى بغطاء مدني. ليس لديك أي سبيل لتصفيتها دون الدخول عميقاً في لبنان بما في ذلك الى صور وصيدا والبقاء هناك. هذا هو الخيار الآخر وقد جرّبناه أيضاً، وليس بنجاح. بين كل منتقدي الخروج لم أجد من يريدون العودة الى لبنان، حتى أولئك الذين وعدوهم بأن الدخول سيكون هو ايضاً من دون أي مصاب. يمكن توجيه ضربة قوية ولكن لا يمكن التصفية. لا اعتقد أنه كانت إمكانية عملية لتصفية حزب الله. كان أناس في القيادة مثل تشيكو تمير وعميرام لفين ممن طالبوا بأعمال أشد وأكثر عدوانية للجيش الإسرائيلي. ومن التكتيكي والمبهج العمل مع أناس كأولئك ممن يسعون الى الاشتباك دوماً. ولكنهم قللوا من معنى حقيقة أن مثل هذه الضربات تخلق ظلماً ومعاناة لمواطنينا، لان حزب الله كان يرد بالكاتيوشا وسكان الشمال هم الذين يدخلون الى ايام طويلة الى الملاجئ».
– عندما يصل باراك إلى هذه النقطة يستخلص قانون الحرب في لبنان، كما صاغته المقاومة، فيقول، متسائلاً، «عن ماذا بالضبط نحن ندافع في الحزام الأمني؟ فحتى الصواريخ قصيرة المدى تصل الى البلدات والمدن في الشمال من فوق رأس الحزام الأمني»، ومن هنا يبدأ السيد بكشف المعادلة التي صاغتها المقاومة استباقياً منذ العام 92 مع اغتيال جيش الاحتلال للسيد عباس الموسوي، عندما استهدفت المقاومة ما وراء الحدود، وجعلتها معادلة حرب دفاعيّة للردّ على التكتيك الرئيسي لجيش الاحتلال في التعامل مع عمليات المقاومة المتمثل بوحشية استهداف القرى وارتكاب المجازر. وصارت المعادلة كلما قصفت القرى الجنوبية ردت بقصف مستوطنات الكيان الشمالية، وكانت الذروة عام 96، حتى نجحت المقاومة في إيصال باراك ونخبة حروب الكيان إلى الاستنتاج الكبير والخطير، «لقد فقد الحزام الأمني وظيفته»، فلماذا نبقى في جنوب لبنان؟ وهذا القانون الديناميكي استخلصته المقاومة منذ عام 93 وحوّلته قانون حربها، دفع جيش الاحتلال للانسحاب يتحقق يوم تسقط المهمة الوظيفية للحزام الأمني المتمثلة بحماية «مستوطنات الشمال». والسياق كله يقول إن الكيان لم يعد يحتمل نزيف البقاء، وخصوصاً نزيف العمق، ولو كان على القشرة يومها بفعل حجم مدى صواريخ المقاومة البدائية حينذاك، وعرفت المقاومة من يومها الجرح النازف وراحت تضغط عليه، وتمسك بقوة معادلات ضغطها، مزيداً من الصواريخ، ومزيداً من الصواريخ الأشد خطراً، والأشد دقة، وقدرة على حماية هذه المعادلة، بحيث يصير أمن الكيان الذي تهدد جزئياً في الشمال فتحقق الانسحاب من جنوب لبنان، مهدداً في كل نقاطه ومدنه وبناه الاقتصادية، وبصورة تدميرية لا يمكن مقارنتها بما كان عليه الحال عام 2000، وجاء مشهد غزة ليؤكد القانون، وحرب تموز 2006 لتزيده رسوخاً. والمقاومة اليوم من ضمن محور قادر بكل مكوّناته على تطويق الكيان في أي حرب قادمة بطوفان من الصواريخ الدقيقة، التي رسمت حكومة نخبة جيش الكيان قانون التعامل مع ما هو أقل منها بالانكفاء.
– يتابع السيد تدفقه الاستراتيجي فلا يستشعر تهديداً استراتيجياً بالاستعراض العسكري لجيش الاحتلال المسمّى «معركة بين حروب»، عبر مواصلة الاعتداء على سورية والمقاومة ضمن ضوابط قواعد الاشتباك، وتحت سقف التسليم بالعجز عن تغيير جدّي في مصادر التهديد الوجودي للكيان، وبيت العنكبوت الذي وصفه عام 2000 زاد اهتراء وإصابته في روحه باتت مؤكدة، وإذا كان ذا مغزى أن تكون حكومة باراك التي رسمت سقف الانسحاب، بما تمثل من نخبة جيش خاض حربي 67 و73 ويريد الخلاص من حروب الاستنزاف غير المجدية،، فإنه ذو مغزى أكبر أن الحكومة الحالية التي تشكلت مؤخراً بتحالف بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، هي حكومة الذين خرجوا مهزومين من ميادين الحرب مع المقاومة في جنوب لبنان، وعلى رأسهم وزير الحرب بيني غانتس الذي كان قائد وحدة الارتباط في جنوب لبنان عام 99 التي أشرفت على الانسحاب عام 2000، وزير الخارجية غابي أشكينازي قائد الجبهة الشمالية منذ عام 96 حتى الانسحاب من جنوب لبنان، وهؤلاء الآتون إلى السلطة تحت وطأة ذاكرة كي الوعي التي أصيبوا بها في معاركهم مع المقاومة، سقوفهم مردوعة سلفاً تجاه فكرة الحرب معها، وهم عرفوها وهي بإمكاناتها المتواضعة، وواكبوا تطورها ونمو مقدراتها وخبراتها وانتصاراتها، ولذلك فبيت العنكبوت بنظر السيد فقد القدرة على الحماية الذاتية، وصار مصدر بقائه هو تعلقه بخيط عنكبوت وحيد هو الوجود الأميركي في المنطقة، وربط بقاء كيان الاحتلال بقاطرة هذا الوجود، وخطط حروبه.
– يمسك السيد هذه النقطة في قراءته بقوة، ويقرأ في معادلات الوجود الأميركي في المنطقة على طريقة صياغة قانون الانسحاب من جنوب لبنان، فيستخلص، عندما يرحل الأميركي ستدق ساعة سقوط الكيان، ووفقاً لهذا القانون فهم خطة ترحيل الأميركيين من المنطقة التي اشتغل عليها القائد قاسم سليماني وسقط شهيداً فيها، بعدما منحها المزيد من أسباب القوة، واليوم لا يبدو امام الأميركيين من خيار إلا الرحيل. إنهم راحلون لألف سبب وسبب، فقد باتت حروبهم مستحيلة، وكلفة بقائهم أكبر من كل عائدات متوقعة. وهذا قبل زمن كورونا، فكيف هو الحال بعده، وكثيرة هي الأحداث والوقائع التي تقول إن الأميركيين يستعدون لحزم حقائبهم من أفغانستان إلى سيناء إلى سورية والعراق، ومحور المقاومة لن يمنح كيان الاحتلال فرصة الدخول بحرب مع الأميركيين، بل هو يخوض حرب ترحيل الأميركيين بالجمع بين الضغوط الناعمة التي تفتح باب الانسحاب عمودياً، واللعب على حافة الهاوية التي تجعل الانسحاب أفقياً. وبين المقاومة كمحور، وكيان الاحتلال سباق على فتح طريق الانسحاب للأميركيين ممراً إجبارياً لتفادي الحرب، وما يعنيه ذلك من فتح طريق فرضيات كثيرة حول مصير الكيان منها فرضية التفكك والانحلال، والسقوط من دون حرب. وبالمقابل محاولات الكيان تحويل المعركة بين حروب إلى توريط للأميركيين في حرب تقطع طريق رحيلهم، وهذا معنى الصبر العظيم لتفادي هذه الحرب، لأنها حرب لا تريدها المقاومة لكنها لا تخشاها، فإن وقعت سيكون محور المقاومة جاهزاً لما أسماه السيد بالحرب الكبرى.
– هذه هي المقاومة التي يقف قائدها على رأس التل مراقباً كل كبيرة وصغيرة في السهول المحيطة والوديان السحيقة، ويرسم، ويقرأ، ويبشر، ليس في حرب نفسية مرسومة بلعبة الإعلام، بل بوقائع وخطط وخريطة طريق، وبدائل، ستصير حكماً في عقول قادة الكيان ونخبه بمفاعيل حرب نفسية، هي الأقوى، ويحسون صدقها ولو أنهم يسمعونها كنبوءة قريبة، لأول مرة بهذه الطريقة الصادمة التي لا تقبل النقاش: كيان الاحتلال إلى زوال.
(البناء)