إيران.. من دمشق إلى كاراكاس !! محمد شمس الدين
إنها “عين الأسد” التي فقأها “المخرز” الإيراني.. 8 كانون الثاني الماضي، ضربت الصواريخ البالستية الإيرانية تلك القاعدة الأميركية الضخمة في العراق رداً على اغتيال قاسم سليماني، الجنرال في الحرس الثوري. هذا التاريخ الذي لن تنساه أميركا لأنه يشكل نقطة الإنعطاف الرئيسية في إرساء توازنات ومعادلات من نوع جديد إذا لم يكن في العالم فعلى الأقل في منطقة الشرق الأوسط برمته.
ناقلات النفط الإيرانية التي أبحرت باتجاه فنزويلا ارتكزت على هذه المعادلات الجديدة فنقلت المادة الحيوية للشعب المحاصر في “الحديقة الخلفية” للولايات المتحدة في لحظة يتوقف فيها النشاط الإقصادي للعالم بأسره بسبب جائحة “كورونا”. وبذلك يكون التحدي الإيراني للقرارات الأميريكية الظالمة قد تم “تدويله”، وعليه فإن الجمهورية الإسلامية قد افتتحت مساراً جديداً في التعامل مع العقوبات التي رفعها الرئيس الأميركي بدعم وحث إسرائيليين إلى أعلى مستوى ممكن، وهو كان يأمل أن يصل فيها إلى ما يصفه بالحد الأدنى “تغيير السلوك” وبالحد الأقصى “تغيير النظام”، تمهيداً لتغيير الواقع السياسي الإستراتيجي في منطقة آسيا بكاملها وليس “غربها” بحسب التوصيف الجغرافي الإيراني.
قبل أن تفقأ “عين الأسد”، كانت وما زالت عيون المخابرات الأميركية ترصد من خلال الأقمار الإصطناعية العسكرية إضافة إلى شركات تتبع حركة السفن في البحار كل خطوة إيرانية على هذا الصعيد، من لحظة تعبئة الناقلات إلى مساراتها ورسوها، إلا أن حركة الناقلات الإيرانية لم تتوقف. هذا ما قاله محدثي المسؤول الإيراني الرفيع عندما سألته عن الأمر، مضيفا أن “الناقلات الإيرانية تصل إلى ليبيا”، وأن الحصار تنفذه الشركات والدول التي تشتري النفط الإيراني، ما خلا بعضها، وليس ما تفرضه الآلة العسكرية الأميركية المنتشرة في كل نقطة في بحار العالم. في حين أن التهديدات التي كانت تطلقها الولايات المتحدة بضرب الناقلات أو حتى مصادرتها لم تكن تعني شيئا بالنسبة للسلطات الإيرانية وهي الآن أصبحت حرة التحرك أكثر بعدما فهمت أميركا أن إيران جاهزة للرد فعلاً لا قولاً.
يذكر أن ناقلات إيرانية استطاعت الوصول إلى مصفاة بانياس السورية في أيار عام 2019 بعدما عمد قباطنتها إلى إطفاء أنظمة التحرك الآلية فيها لحجبها عن أنظمة التتبع وقيادتها وتحديد مساراتها باستخدام بوصلات تعتمد على الإبرة المغناطيسية.
فما بعد “عين الأسد” لن يكون كما قبلها، فالمعادلات الجديدة التي أرستها “عملية الشهيد سليماني” كما اسمتها إيران ستنسحب مفاعيلها على مجمل السياسة الأميركية وانتشارها العسكري التي بات محاصراً في منطقة الشرق الأوسط تحديدا بغض النظر عن نتائج كسر الحصار إيرانياً على المستوى الإقتصادي الذي قد تستمر تأثيراته السلبية على الأقل بالمدى المنظور حيث ساهم فيها التفشي العالمي “لوباء كورونا”. إلا أن المنطقة يلوح في افقها ارتفاعاً في منسوب التوترات خلال الفترة المقبلة على خلفية ما يهدد به الرئيس الأميركي من فرض المزيد من العقوبات على إيران وصولاً إلى تطبيق ما يسمى بـ”قانون قيصر” الخاص بالعقوبات على سورية مع بداية حزيران المقبل، وهو ما بدأ التمهيد له من ناحيتين:
الأولى: الإعتداءات الصهيونية المتكررة التي ينفذها الطيران الحربي الإسرائيلي على المواقع العسكرية السورية والتي يروَج على أنها تستهدف “الوجود العسكري الإيراني” هناك، وهذا الأمر مستبعد لأن تل أبيب كما واشنطن باتت تخشى رداً إيرانياً معطوفاً على “درس عين الأسد”، و”درساً مقاوماً” من حزب الله في حال استهدفت مواقعه نتيجة المعادلات التي أرساها معها، لذلك فإنه من المؤكد أن الأهداف سورية تنطوي على هدف أساسي يتعلق بضرورة استمرار زعزعة الإستقرار في سورية قبل تحولها كلياً الى “دولة مقاومة” متاخمة لفلسطين المحتلة، الأمر الذي سينتج تحولات في إدارة الصراع العربي – الإسرائيلي الذي نجحت السياسات الأميركية – الإسرائيلية في إسقاطه عبر عقود من الطرق على حديد عراه إن بالترغيب أو بالترهيب وليس آخرها ما يسمى بـ”صفقة القرن“.
الثانية: تتعلق بلبنان “الحديقة الخلفية” لسورية، والذي بدأت الإدارة الأميركية مشروع إسقاطه في 17 تشرين الأول 2019 عندما أمرت أدواتها في القطاع المصرفي العام والخاص بتنفيذ المرحلة الأخيرة من إيصاله إلى الإنهيار التام عبر السيطرة على أموال الناس المودعة في المصارف وتحويلها إلى الخارج لإحراج اللبنانيين ودفعهم إلى الفوضى من خلال تحميل “حزب الله” المسؤولية عن ذلك، إلا أن اللبنانيين يعلمون جيدا وبالملموس أن الحزب لا باع له في ما وصلت إليه الأمور فضلاً عن أن مدخرات الناس لا تتصل بأي شكل من الأشكال لا بالسياسات ولا برسمها، في حين أن الهندسات المالية وممارسات السلطة والطبقة السياسية في البلد قد أمعنت بالفساد المالي الناتج عن الفساد السياسي والإرتهان إلى مخططات الخارج وتحديدا أميركا وإسرائيل وتطويع هذا الإرتهان في معركتهما “المزمنة” مع المقاومة.
ما يجب لفت النظر إليه هو ارتفاع منسوب التوتر في لبنان الذي يظهر من خلال إختلال الخطاب السياسي أخيراً، وما صاحبه فجأة من دعوات تتعلق بتركيبة النظام وصولاً إلى تلك المتحمسة لتصعيد التحركات المطلبية ضد الحكومة ربطاً بانطلاقها في 17 تشرين الماضي. وكل ذلك يحصل عشية بدء تطبيق “قانون قيصر” الأميركي ضد سورية.
“عين الأسد”.. قد فقئت، ولا مجال إلى مداواتها، في حين أن تركيب “عين زجاجية” مكانها من المستحيل أن تجعلها ترى مرة جديدة.