في يوم القدس: أين القدس وفلسطين الآن؟: العميد د. أمين محمد حطيط
استندت “إسرائيل” في قيامها “دولة” على أرض فلسطين، احتلت بها مقعداً في الأمم المتحدة، إلى القرار 181 الذي اعتمد على شرعيتها الدولية الملفقة، والذي استند في إصداره أصلاً إلى واقع فرضه الإرهاب والمال الصهيوني، إرهاب مارسته عصابات الهاغانا والشتيرن، ومال بذلته عائلات البنوك الصهيونية. وتمكّن اليهود من السيطرة على أكثر من 25% من ارض فلسطين التاريخية، ثم جاء القرار 181 ليعطيهم بسخاء أكثر من 55% من مساحة فلسطين، الأمر الذي رفضه العرب من فلسطينيين ودول الجوار الفلسطيني. الذين رفضوا في العلن قرار تقسيم فلسطين ورفضوا الاعتراف بدولة الاغتصاب الصهيوني، وقرّروا العمل على إجهاض مشروع الاحتلال من أساسه، ووجهوا تشكيلات عسكرية عربية انضوت تحت ما أسمي “جيش الإنقاذ” لاستنقاذ فلسطين، فكان هذا الجيش الذي شكل على عجل أول تجربة عسكرية عربية مشتركة في مواجهة عدو خارجي يظهر في ظلّ الجامعة العربية الحديثة النشأة.
ظنّ المتفائلون من العرب انّ “جيش الإنقاذ” الذي ساهمت في تشكيله ستّ دول عربية سيسحق عصابات الهاغانا والشتيرن الإرهابية، ويثبّت أهل فلسطين في بيوتهم، لكن النتيجة كانت عكس التوقع، حيث انجلى غبار حرب الإنقاد عن مآسٍ كبرى هي افتضاح التقصير والإهمال العربي الذي يصل إلى حدّ الخيانة في الأداء الميداني والسياسي، وتمكّن اليهود من احتلال نصف مساحة الأرض التي كانت خصّصت للعرب في قرار التقسيم وتهجير معظم سكان فلسطين من المساحة التي خصّصت لليهود ومن المساحة الإضافية الجديدة ووصول اليهود إلى القدس واستيلائهم على نصفها الغربي، ثم كانت اتفاقيات الهدنة التي كرّست الواقع الميداني الذي أسفرت عنه حرب الإنقاذ، وتأكد أنّ الهدف المركزي لليهود ومن ورائهم هو تنفيذ وعد بلفور بحذافيره عبر اعتماد استراتيجية المراحل والخطوة خطوة والقضم لقمة لقمة بحيث تكون لقمة جديدة عندما يتمّ هضم السابقة إلى ان تنتهي المواجهة بما حدّده الصك البريطاني من تمكين الصهيونية من السيطرة على كامل فلسطين التاريخية وطرد أهلها منها من الأديان والقوميات الأخرى لتكون وطناً قومياً لليهود فقط.
وترسّخ اليوم هذا الانطباع إلى حدّ إخراجه من دائرة المناقشة (مجرد المناقشة) خاصة بعد سلسلة تقدّم “إسرائيل” في الحروب التي شنّتها على العرب منذ 1948 إلى 1982 وهي حروب كانت دائماً تنتصر فيها وتتوسّع، في مقابل سلسلة من التراجع العربي بدأت باتفاقيات الصلح والاستسلام منذ العام 1978 والتراجع عن رفض “إسرائيل” وصولاً إلى التطبيع والتحالف معها من قبل بعض الدول العربية، ثم نزول أول طائرة عربية إماراتية في مطار بن غوريون منذ أيام. وهكذا تشكل على مسرح المواجهة خطان متناقضان… خط صهيوني صاعد يتقدّم ويحقق أهداف أصحابه، وخط عربي نازل متراجع يفرّط بالحقوق ويتنازل عنها شيئاً فشيئاً إلى درجة أنه بات يطالب اليوم بما كان يرفضه بالأمس لأنه يعتقد أنه لن يُعطى في الغد شيء.
في ظلّ هذا الوضع المأسوي أطلق الأمام الخميني وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، نداء للمسلمين للتضامن من أجل فلسطين وأسماه “يوم القدس العالمي”، حيث قال “إنني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخير من هذا الشهر الفضيل من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين». نداء ظنه البعض في البدء طفرة كلامية استعراضية كما اعتادوا مع المواقف العربية التي تظهر شديد العداء والتحفز لقتال «إسرائيل» في العلن، ثم تجد معظم أصحاب تلك المواقف يعملون مع «إسرائيل» وينسّقون خطواتهم معها في الخفاء. (واليوم سقط الخجل وبات العمل مع «إسرائيل» من قبل هؤلاء في العلن أيضاً).
بيد أنّ الإعلان الإيراني هذا كان مختلفاً عن سواه حيث أرفق باعتماد استراتيجية إيرانية عملية بدأت بإقفال سفارة «إسرائيل» في إيران لتفتح مكانها سفارة فلسطين، تدبير ترافق مع تشكيل فيلق القدس ليكون جزءاً من تشكيلات الحرس الثوري الإيرانيّ وليرفد كلّ حركات مقاومة المشروع الصهيوني، حيث التزمت إيران دعم ومساندة حركات المقاومة الجدّية التي تخوض المواجهة مع «إسرائيل» ثم كان تبني إيران لمنظومة إعلامية دولية واسعة تحمل قضية فلسطين وتوجّه حرب التثبيط وثقافة الاستسلام، وصولاً إلى تبلور محور المقاومة من قوى عربية وإسلامية فلسطينية وغير فلسطينية محور يقوم على فكرة رفض المشروع الصهيوني في فلسطين كلياً ويدعو إلى إقامة دولة في فلسطين تكون لأهلها من كلّ الأديان والأعراق بمن فيهم اليهود، من دون أن يطرد من أهلها أحد ولا يقبل من الأجانب فيها أحد.
لقد حقق الموقف الإيراني حيال فلسطين منذ إعلان «يوم القدس» وتحديد أهدافه، صدمة استراتيجية للمشروع الغربي الصهيوني، وأضاف إلى المشهد في فلسطين والإقليم خطاً ثالثاً ينافض الخط العربي التراجعي ويواجه الخط الصهيوني الصاعد، خطاً وجه رسالة واضحة إلى «إسرائيل» ومَن خلفها مفادها «انّ التراجع العربي او تنازل النظام الرسمي العربي لا يعني ضياع الحقوق العربية والإسلامية والمسيحية في فلسطين“. وانّ هناك مقاومة قادرة ومن كلّ المشارب تتشكّل وتتعاظم قدرتها إلى أن تصبح بحجم يمكنها من تحقيق أهدافها في إقامه دولة العدالة في فلسطين وجعل فلسطين كلّ فلسطين للفلسطينيين كلّ الفلسطينيين ومن كلّ المشارب.
واليوم وبعد 41 عاماً من إعلان يوم القدس العالمي نستطيع أن نقول إنّ مسار تصفية القضية الفلسطينية الذي بدأ مع وعد بلفور لعام 1917 ووصل إلى رؤية ترامب للسلام المسماة «صفقة القرن» في العام 2020 الصفقة التي شرعت الباب للإجهاز على كلّ الحقوق الفلسطينية في الأرض والسياسة، إنّ مسار التصفية هذا بات غير قابل لتحقيق أهدافه، وإنّ عمليات التطبيع الإسرائيلية التي تتمّ مع النظام الرسمي العربي لن تخترق الشارع العربي وضمير الرفض العربي والإسلامي، فتحرير فلسطين وعلى رأسها القدس اليوم كما يقول السيد حسن نصرالله «بات أقرب من أيّ يوم مضى»، كلّ ذلك يحدث لأنّ هناك مقاومة حقيقية للمشروع، وانّ هناك محور مقاومة تمكن منذ العام 2000 من حصد الانتصار تلو الانتصار في لبنان وفي غزة وفي العراق وفي سورية وفي اليمن. وإنّ التضامن الذي دعا اليه الإمام الخميني مع الفلسطينيين لم ينحصر بموقف إعلامي وشعوري، بل هو تضامن ميدانيّ يحتضن أهله القضية الفلسطينية ويصرّون على الوصول بها إلى منتهاها العادل السليم.
وبتشكل محور المقاومة وبصلابة مكوّنات هذا المحور التي ترفد الرفض والمقاومة الفلسطينية بات يقيناً انّ كلّ مشاريع تصفية القضية الفلسطينية ساقطة وسيكون سقوط صفقة القرن مؤكداً، رغم ما يبديه بعض العرب والنظام الرسمي العربي من دعم وتأييد لها. والسقوط مؤكد لسببين أساسيين:
1 ـ الرفض الفلسطيني وعدم وجود مَن يوقّع منهم على التنازل عن فلسطين كما تتطلّب صفقة ترامب، وانّ هذا الرفض الناشئ أولاً من عنفوان وطني فلسطيني يستمدّ قوة من دعم صادق مؤكد يأتيه من محور المقاومة ويترجم في السياسة والميدان مقاومة تقضّ مضاجع العدو. فإعلان يوم القدس قال للفلسطينيين لستم وحدكم.
2 ـ رفض محور المقاومة الذي بات يملك القوة العسكرية التي تفرض معادلات الردع الاستراتيجي أولاً والمنفتحة على إمكانية امتلاك القدرات العسكريّة الهجوميّة التي تمكّن أصحابها من القتال على أرض فلسطين المحتلة لتحريرها عندما يحين الوقت.
هذا فضلاً عن عوامل أخرى تتزايد تأثيراتها مع تقدّم قوة العاملين المذكورين، حيث نجد على سبيل المثال توسّع الرفض الدولي خاصة الشعبي والمنظمات الأهلية للأكذوبة الصهيونية بحقها في فلسطين والدعوة إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية.
وبالخلاصة نقول تمكّن إطلاق يوم القدس العالمي مع ما تلاه ورافقه من كسر لوحة كئيبة للصراع مع الصهيونية لوحة كانت تظهر تقدّماً دائماً للعدو وتراجعاً مستمراً لأصحاب الحقوق المشروعة في فلسطين. وجاءت انتصارات محور المقاومة الملتزم للقضية الفلسطينية والداعم للشعب الفلسطيني في مساره التحريري، جاءت هذه الانتصارات لتؤكد الثقة بالمستقبل ولتبث مقولة “فلسطين لأهلها ولن تضيع”.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي
(البناء)