لبنان وسورية والعراق: اختناق الافتراق: ناصر قنديل
– ربما يشكل لبنان الحلقة الأضعف والخاصرة الرخوة في الثلاثي المشرقي، المكوّن من لبنان وسورية والعراق، في قلب أزمة اقتصادية ومالية تتساوى في القلق من تداعياتها البلدان الثلاثة، رغم امتلاك العراق قدرة نفطية ضخمة تشكل رصيده الأبرز، واستناد سورية إلى بنية زراعية وصناعية تتيح رغم سنوات الحرب وأضرارها توفير نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي الغذائي والاستهلاكي، والأجيال الحالية لا تملك ذاكرة كافية للعلاقات الاقتصادية الطبيعية التي تتفوق على السياسة، والتي كانت خلالها اقتصادات الدول الثلاثة بخير، قبل أن تتقطع أوصالها منذ أربعة عقود، مع بدء الحرب التي شنّها العراق على إيران، وتسببت بإقفال الحدود السورية العراقية ومعها وقف حركة السلع السورية واللبنانية نحو العراق، سوقهما الأهم، ووقف تدفق النفط العراقي إلى بانياس وطرابلس، ودخول سورية ولبنان سوق النفط العالمي لشراء المشتقات النفطية، التي شكلت منذ ذلك التاريخ مصدر النزف الأهم في مواردهما ولا تزال.
– يعتقد الكثيرون أن كل دولة تشكل بذاتها متحداً اقتصادياً كافياً، وأن العلاقات الاقتصادية لهذا المتحد مع الخارج يمكن أن تكون متكافئة ومتعادلة، وفقاً لنمط السلع التبادلية، بمعزل عن هوية الخارج، الذي يتشكل أصلاً من كيان سياسي أي دولة، ويصير في التعامل كياناً اقتصادياً أي سوق. والدولة هنا هي جمارك وعملة موحدة، فهل يكفيان لتشكيل السوق؟ والجواب هو بالنفي قطعاً، ذلك أن عناصر تشكيل السوق أعمق في الزمن والمحتوى، من شروط تشكل الدولة، ووحدة العملة ورسوم الجمارك، أولاً، وثانياً لأن السوق تتكفل عند حاجات نموها بإسقاط الحدود الجمركية والعملة أيضاً، كما تقول تجربة الاتحاد الأوروبي، أو تحمي بقاء الحدود والعملة كما تقول حال بريطانيا التي دخلت الاتحاد ولم تترك عملتها المستقلة لحساب منطقة اليورو، وفي تاريخ لبنان وسورية تحت الانتداب الفرنسي بقيت الدولتان منفصلتين برئيسين ومجلسي نواب وحكومتين وجيشين، لكن بعملة واحدة وجمارك واحدة. وعندما انفصلتا في مجال العملة والجمارك، بدأت الأزمات تشتدّ في كلتيهما.
– يغيب عن بال الكثيرين أن الاقتصاد ليس فعلاً إرادياً سياسياً تنشئه الدول، بل هو فعل طبيعي حيوي ينمو عبر تاريخ طويل تفرضه الطبيعة، ويتكيف معه الإنسان، وتتأقلم معه المهارات عبر الأجيال، وتتكامل ضمنه حركة السلع وإنتاجها، وعندما تلاقيه السياسة يتحقق الانفراج والازدهار، وعندما تجافيه يقع الضمور والانفجار، والمتحد الاقتصادي الذي يتشكل عبر التاريخ وتأتي الحدود السياسية بين أطرافه لتقطع أوصاله، يشبه الجسد الذي تصيبه الحمى ويصيب أطرافه الشلل إذا شدّت الأحزمة بين الجسد والأطراف، والنظرة التاريخيّة تكفي لمعرفة كيف كان هذا المتحد الاقتصاديّ قائماً على تكامل مكوناته، حيث العراق يدفع اليوم كلفة مضاعفة لمستورداته من أوروبا، كما لصادراته النفطية إليها، بسبب خسارته لما كان يوفره كل من مرفأ بيروت ومصفاة طرابلس، بينما خسر لبنان الموارد العالية لهذه الوظيفة، كما خسر سوقاً ضخمة لمنتجاته الزراعية والصناعية التي كان العراق سوقها الأهم، وبقي السؤال عن سوق المصارف والجامعات والمستشفيات في لبنان إن لم تكن لتخديم اقتصادات وحاجات سورية والعراق، وسورية التي تشكل مقصد الطبقات الوسطى والفقيرة في لبنان والعراق تحتاجهما لكل تطوير لاقتصادها، ويحتاجانها لكل أمن غذائي واجتماعي، إضافة لكونها الرابط الجغرافي الحكمي بينهما، ولم يحتج الفرنسيون والبريطانيون وقتاً وجهداً لإدراك أهميّة هذا الترابط، فهما من أنشآ سكك الحديد، وخط النفط العراقي على المتوسط، والعملة الموحّدة للبنان وسورية، ومعها ما عرف بالمصالح المشتركة.
– يكثر النقاش في لبنان وسورية والعراق عن المخارج من الأزمات الاقتصادية الراهنة، وبالتأكيد هناك إجراءات يحتاجها كل بلد على حدة، لكن ما يجب قوله بوضوح قاطع هو أن أي محاولة للنهوض لا تتأسس في البلدان الثلاثة على رد الاعتبار لمفهوم المتحد الاقتصاديّ، الذي يمكن له أن يتّسع للأردن والكويت، محكوم عليها بالفشل، ونقطة البداية خطوة شجاعة من العراق ولبنان لن تتأخّر عنها سورية، هي الدعوة لقمة على مستوى رؤساء الحكومات بين الدول الثلاث تنعقد في بغداد، وتتخذ فوراً قرارات بحجم تشغيل أنبوب النفط العراقي، وتنشيط التبادل التجاري باعتماد العملات الوطنية للدول الثلاث، وتخفيض رسوم التجارة والترانزيت وتحسين شروط العبور الآمن للسلع والأفراد عبر الحدود، وتحقيق الربط الكهربائي وربط شبكات الهاتف الخلوي برموز محلية، والكثير مما يمكن فعله بقرار، وما ينعكس بقوة على صناعة الاستقرار.