ذكرى النكبة بين الأمس واليوم- منير شفيق
نكبة فلسطين كانت نكبة للعرب والمسلمين، وأحرار العالم، وليست نكبة الفلسطينيين وحدهم، أو نكبة قُطرٍ ما من أقطار العالم. وذلك لأنّ فلسطين، وفيها القدس وما حولها، تتعدّى نكبةً في قطرٍ ما، أو لشعبٍ ما. ففلسطين وقدسها جزءان لا يتجزّآن من الوطن العربي والعالم الإسلامي. ولأنّ الكيان الذي كان الوجه الآخر لنكبة فلسطين مثّل ويمثِّل، جزءاً شريكاً في الاستعمار العالمي والإمبريالية العالمية، فيما جعل من قضية فلسطين قضية لأحرار العالم وشعوبه. بل كان من نتائج إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين أن تمكّنت الصهيونية العالمية من بسط نفوذٍ هائل التأثير في أميركا وأوروبا؛ وهذا بُعدٌ سيكون له ما بعده في مستقبل الغرب ومصيره.
الخصوصية الثانية لقضية فلسطين من بين كل قضايا التحرّر العالمية ضد الاستعمار والإمبريالية والعنصرية، كونها قضية اقتلاع شعب من وطنه، وإحلال مستوطنين صهاينة مكانه. فقد مثّلت النكبة هذه السمة، حيث اقتلع ثلثا الشعب الفلسطيني تقريباً، من بيوتهم وأراضيهم وقراهم ومدنهم، ليصبح أغلبهم لاجئين خارج فلسطين، وقلّة داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، وحيث قام كيانٌ للمستوطنين في بيوتهم المفروشة وأراضيهم المزروعة وقراهم ومدنهم المعمورة، وقد ساوى 78% من فلسطين، عام النكبة 1948، بما فيها غرب القدس، ثم أكمل احتلال كلّ فلسطين عام 1967 مع سيناء والجولان. وقد فرض الاقتلاع الجديد نزوح أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني، ثم استمرّت سياسات التهجير، خصوصاً من القدس، ومصادرة الأراضي والبيوت.
إنها حرب وجود يشنّها الكيان الصهيوني، وخطته اقتلاع كلّ الفلسطينيين وتهويد كلّ فلسطين. وجاء قرار الكنيست حول قومية الدولة اليهودية، ليكون الهدف الذي تحقّقه تلك الخطة. ولهذا، أُلقيت في سلّة المهملات كلّ القرارات الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، وكلّ ما طُرح من حلول للقضية الفلسطينية، بما فيها حلّ الدولتين، مروراً باتفاق أوسلو، وصولاً الآن إلى إعلان دونالد ترامب ما سمّاه «صفقة القرن»، وما اتخذه من قرارات، وأخطرها إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وشرعنة المستوطنات. وذلك بهدف الوصول، خطوة بعد خطوة، إلى الاقتلاع الكامل للشعب الفلسطيني، والاستيلاء الكامل على فلسطين، وتزوير التاريخ ومحو الآثار الحضارية أو تشويهها، لتأكيد وهم «الحق الديني والتاريخي» للوجود الصهيوني في فلسطين، وفقاً للسردية الصهيونية الملفقة.
لذلك، كلّ من حاول أن يجد حلّاً للقضية الفلسطينية، ولو بأعلى مستويات الغبن للشعب الفلسطيني، ولحقوقه وحقوق الأمة العربية والإسلامية في فلسطين، كان يقدّم تنازلاً مجانياً يخدم في نهاية المطاف المشروع الصهيوني في الاقتلاع الكامل والإحلال الكامل. أما اليوم، فلم يعد مطروحاً حتى في الوهم، كلّ ما صدر من قرارات دولية، أو قُدّم من حلول أو جرى من مفاوضات أو «اتفاقات». فلم يعد مطروحاً، اليوم، غير مواصلة الصراع والمقاومة ضد الكيان، مع تأكيد ثوابت القضية الفلسطينية في تحرير كل فلسطين، من النهر إلى البحر ومن الناقورة إلى أم الرشراش. ولم يعد مطروحاً من جانب الكيان الصهيوني وأميركا، غير مواصلة سياسة الاقتلاع الكامل والاستيلاء الكامل والتهويد الكامل. أمّا كل حديث عن العودة إلى المفاوضات، فهو الغطاء الراهن لتمرير ما هو مطروح من جانب الكيان الصهيوني وأميركا، وهو ما يترجم الآن في الضفة الغربية في ضم مستوطنات، وأراضٍ جديدة، وفي القدس عبر التهويد، وسياسات السيطرة على المسجد الأقصى، بهدف اقتسام الصلاة فيه، وشلّ حرس دائرة الأوقاف، ومنع ما أمكن من وصول المصلين إليه.
يحدث هذا كله، الآن، في موازين قوى ليست في مصلحة الكيان الصهيوني، وذلك على غير ما كانت الحال في مرحلة النكبة، أو ما بعدها من مراحل. كيف؟
ما بين عامي 1918 ـــــ 1948، أي مرحلة الهجرة الاستيطانية الصهيونية، وحرب 1948، كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني الذي قمع مقاومات الشعب الفلسطيني وثوراته، وجرّده من السلاح، وأمّن الهجرة الصهيونية في ظلّ مئة ألف جندي بريطاني، وكبّل دول التجزئة العربية، بعدما قسّمها وسيطر عليها وشلّها شلّاً كاملاً. وكان قد سيطر على تركيا وإيران، والعالم الإسلامي عموماً، فيما اتفقت كل الدول الكبرى، بما فيها الاتحاد السوفياتي، على إقامة الكيان الصهيوني ودعمه.
وفي المرحلة الممتدة من عام 1950 إلى عام 1967، كان الكيان الصهيوني متفوّقاً عسكرياً على كل الجيوش العربية، بالرغم من انتصارات سياسية حققتها حركة التحرّر العربي ضد الاستعمار القديم، إلّا أنّها حوصرت بالهيمنة الأميركية التي أجهضت وحدة مصر وسوريا، وعزّزت الجيش الصهيوني لإنزال هزيمة عسكرية قاسية بمصر وسوريا والأردن، عام 1967؛ واحتلال سيناء والجولان كلّهما، والضفة الغربية وقطاع غزة.
باختصار، اتّسمت هذه المرحلة بميزان قوى في مصلحة الكيان الصهيوني وأميركا، والذي تفاقم أكثر بخروج مصر من الصراع من خلال المعاهدة المصرية ـــــ الإسرائيلية عام 1979. وكاد ميزان القوى يتعدّل نسبياً بإطاحة نظام الشاه في إيران، وقيام الثورة الإسلامية التي سرعان ما حوصرت بالحرب العراقية، على مدى تسع سنوات. وزاد الطين بلّة مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وعقد اتفاقية أوسلو عام 1993.
شكّلت مرحلة التسعينيات انتكاسة لليسار العالمي بانهيار المعسكر الاشتراكي، وبالإصلاحات ذات الطابع الرأسمالي في الصين، كما شكّلت تراجعاً للمقاومة الفلسطينية ولحركة التحرّر العربي. ولكنّها شكّلت في الآن نفسه صحوة إسلامية عالمية من حيث إقبال الناس على الصلاة والمساجد، وانتقال إيران إلى تعزيز قدراتها، والسير على طريق النهوض مع دعم موازٍ لقوى المقاومة الإسلامية، حزب الله في لبنان، وحماس وحركة الجهاد في فلسطين.
مع فاتحة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، تهاوى النظام العربي، بعد احتلال أميركا للعراق عام 2003، ولكن في الآن نفسه انتصرت المقاومة الإسلامية في لبنان، بدحر الاحتلال عن جنوبه عام 2000، ثم الانتصار في حرب تموز / يوليو 2006. وتبعه انتصار المقاومة في حرب 2008 / 2009 في قطاع غزة. وعلى المستوى العالمي، تمكّن فلاديمير بوتين، في الفترة نفسها، من تحويل روسيا إلى دولة كبرى من جديد، فيما قفزت الصين قفزات هائلة في تطوّرها الاقتصادي والعسكري والعلمي والتقني، ما حوّل النظام العالمي، ولا سيما مع أزمة العام 2008 التي أطاحت العولمة، إلى حالة متعدّدة القطبية، على حساب ما اعتبره البعض النظام العالمي الأحادي القطبية بزعامة أميركا.
وجاءت العشرية الثانية لتكرّس ما ورثته من العشرية التي سبقتها، لتدفع إلى الأمام، مع نصفها الثاني، موقع إيران كقوة إقليمية وبشهادة دولية، عبر الاتفاق النووي، إلى جانب ما تكرّس من تطويرٍ لقدرات حزب الله العسكرية، وكذلك بالنسبة إلى المقاومة في قطاع غزة، حيث انتصرت في حربي 2012 و 2014، وأصبحت تمتلك صواريخ تصل إلى ما بعد تل أبيب، وتطلق مسيرات العودة الكبرى، وترسل طائرات اللهب الورقية، والبالونات، لتحرق آلاف الدونمات في المستوطنات من حولها.
وعلى المستوى العالمي، أصبحت روسيا في السنوات الخمس الأخيرة فرس رهان مع أميركا في سباق التسلّح، إن لم تسبق في أكثر من مجال، ولا سيّما الصواريخ البالستية ما فوق سرعة الصوت بدرجات. وأمّا الصين، فراح تطوّرها الاقتصادي يُقارب أميركا من حيث الإنتاج الكلّي، ويتهدّده بالتفوّق عليه قريباً، إلى جانب تقدّم هائل في تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي جعل نهاية العشرية الثانية تنذر بانتقال الوضع العالمي إلى مواجهة أميركية ـــــ صينية حبلى بأشد الأخطار والاحتمالات، وذلك جنباً إلى جنب مع تصاعد المواجهة الأميركية ــــــ الإيرانية (ومعها محور المقاومة) إلى مستوى سيقرّر مصير قضية فلسطين، والوضع الإقليمي لعشرات السنين المقبلة. وهذا يحدث لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي تقرّر بعدها تكريس السيطرة العالمية للغرب، كما تقرّر إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، وكانت النكبة التتويج الأول له كذلك. يجب أن يضاف هنا أنّ تركيا لم تعد محسوبة في ميزان القوى لحساب الكيان الصهيوني.
صحيح أنّ الوضع الراهن راح يفرز ظواهر تبدو متناقضة مع ما حدث من تغيّر نوعي في ميزان القوى، عالمياً وإقليمياً، في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني؛ فمن هذه الظواهر، التهافت المرضي لبعض الدول العربية (السعودية، والإمارات والبحرين)، على التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومعاداة المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى ما يجري من خطوات أميركية ــــــ صهيونية مثل ضم القدس للكيان واعتبارها عاصمة له، ومثل الإجراءات التي تعدّ لضم الأغوار وبعض المستوطنات، أو إعلان ضمّ الجولان، وما يسمى «صفقة القرن». فهذه الظواهر تعطي صورة للوضع لدى البعض، بأنّ القضية الفلسطينية على طريق التصفية، والوضع العام على طريق الانهيار. ولكن هذه الصورة ظاهرية وخادعة، ولا تعبّر عن ميزان القوى الحقيقي. فما اتّخذ ويُتّخذ من خطوات أميركية صهيونية، يتم تحت ما هو قائم من احتلال، ولكنّه قائم على أرجل خشبية، سرعان ما سيتهاوى عندما تنتهي سياسات محمود عباس المناهضة للانتفاضة، وينتهي التنسيق الأمني الذي لا احتلال من دونه. أمّا تهافت المطبّعين، فتعبير عن انهيار سياسي وأخلاقي وضعفٍ، ولا يحمل تعبيراً عن مستقبل، فهو ينتظر ما سيحدث من صراع أميركي ــــــ إيراني، ومن حروب صهيونية خاسرة مع المقاومة.
وبكلمة، إنّ أهمّ ما يجب أن يُرى هذا العام في ذكرى النكبة، أنّ موازين القوى التي صنعت النكبة وما بعدها، هي غير موازين القوى الراهنة التي تهبّ رياحها في غير مصلحة صانعي النكبة.