نتائج حرب كورونا… هل تسرع أفول عصر الإمبراطورية الأميركية: حسن حردان
تزداد المؤشرات التي تؤكد أن نتائج حرب كورونا العالمية سوف تسرع من التحولات في العالم التي بدأت قبل ظهور جائحة كورونا، وتجلت في التغيّر الحاصل في موازين القوى العالمية، وتراجع وانحسار نظام الهيمنة الأميركي الأحادي القطب. ما هي المعطيات والوقائع التي تدلل على ذلك؟
أولاً، من المعروف أن نتائج الحرب العالمية الثانية أسفرت عن أفول الإمبراطورية البريطانية التي كانت الشمس لا تغيب عن مستعمراتها، وإسدال الستار على نظام دولي قديم، لمصلحة ولادة نظام عالمي جديد ثنائي القطب.. كتلة شرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وكتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، استمر هذا النظام العالمي حتى انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي لمصلحة هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي وولادة نظام القطب الأوحد.
ثانياً، كان لدى كبار الخبراء الاستراتيجيين قناعة بأن نظام القطب الأوحد لا يمكن أن يستمر على قاعدة الهيمنة الأميركية، لأن مثل هذا النظام يؤدي إلى استفزاز الدول الكبرى والإقليمية التي ستعمد إلى التكتل للدفاع عن مصالحها التي تتجاهلها الولايات المتحدة.. وهو ما حصل فعلا.. فبعد أن استعادت توازنها، سارعت روسيا بالتعاون مع الصين إلى تشكيل منظمة شنغهاي التي تضم إليهما، الهند، طاجيكستان، قيرغيزستان، كازاخستان وأوزبكستان، باكستان، فيما حصلت أربع دول اخرى على صفة مراقب فيها، وهي.. إيران، منغوليا، أفغانستان وبيلاروسيا.. وقد نجحت هذه المنظمة في تطوير العلاقات الاقتصادية فيما بين أعضائها وتشكيل قوة اقتصادية عالمية في مواجهة القوة الأميركية الغربية، وكان من أبرز ما سعت إليه المنظمة العمل على وضع حد لنظام الهيمنة الأحادي القطب، والدفع لإنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب.. وكان من أهم القرارات التي اتخذتها المنظمة مؤخراً في هذا السياق، قرار اعتماد العملات المحلية الوطنية في التبادل التجاري والاستثمار الثنائي وإصدار سندات، بدلاً من الدولار الأميركي الأمر الذي اعتبر نهاية لعقود طويلة من الهيمنة الأميركية على العالم في التجارة والذهب والتعاملات النفطية.
ثالثاً، منذ عام 2001 وعلى إثر هجمات 11 أيلول التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك، أقدمت واشنطن، وتحت عنوان محاربة الإرهاب، على شن الحرب على أفغانستان واحتلالها، ثم شنت الحرب على العراق واحتلته، لكن الهدف الحقيقي من وراء هذه الحرب السيطرة على أهم احتياطات النفط والغاز في العراق وآسيا الوسطى وطرق إمداد الطاقة من أجل التحكم بالقرار الاقتصادي العالمي ومحاصرة روسيا والصين وتقويض جهودهما لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب بديلاً عن نظام الهيمنة الأمريكي الاحادي.. غير أن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها المذكورة، نتيجة المقاومة الشعبية والمسلحة التي استنزفت قواتها المحتلة في العراق وافغانستان..وجعلت احتلالها مكلفاً مادياً وبشرياً، فاضطرت واشنطن إلى الانسحاب من العراق عام 2011، وتقليص عديد قواتها في أفغانستان إلى أن عقدت مؤخراً اتفاقاً مع حركة طالبان يقضي بسحب قواتها المتبقية من افغانستان.. في حين أن العدوان الصهيوني على لبنان عان 2006 للقضاء على المقاومة، وحروبها الإرهابية غير المباشرة التي شنتها ضد سورية والعراق فشلت هي الأخرى في محاولة التعويض عن الهزائم الأمريكية العسكرية، وإعادة تعويم مشروع الهيمنة الأميركي الاحادي في المنطقة والعالم.. وكانت النتيجة أن بدأت تولد من انتصارات سورية، وبدعم من حلفائها في محور المقاومة وروسيا، معادلات وموازين قوى جديدة، دولية واقليمية، في مواجهة القوة الأميركية..
رابعاً، في وقت كان العالم ينتظر أن تترجم معادلات وموازين القوى الدولية والإقليمية سياسياً، وأن تسلم الإدارة الأميركية الجديدة بهذه المعادلات، بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عادت واشنطن من جديد إلى مواصلة سياسة الهيمنة، بضغط من المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني الأميركي في الولايات المتحدة، وذلك عبر استخدام اخر سلاح متبقي بجعبتها وهو سلاح الهيمنة على القرار المالي الدولي بوساطة الدولار، فلجأت إلى رفد الحصار الاقتصادي الذي تنفذه واشنطن ضد الدول التي ترفض هيمنتها، وضد حركات المقاومة، بحصار مالي يمنع اي تحويلات او تعاملات بالدولار مع إيران وسورية، وعن كل مؤسسة أو شخصية تتعامل او لها صلة بحركات المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان واليمن.. إلخ..
خامساً، راهنت إدارة العدوان في واشنطن على سلاح الحصار الاقتصادي والمالي لتحقيق ما عجزت فيه حروبها العسكرية المباشرة وحروبها الإرهابية بالوكالة، وعمدت إلى تغذية تحركات اجتماعية ومطلبية في لبنان والعراق في محاولة لتغيير المعادلات السياسية في البلدين بإقصاء قوى المقاومة وحلفائهم عن السلطة.. لكنها اصطدمت بموازين قوى وصمود قوى المقاومة، وترافق ذلك مع ظهور فايروس كورونا الذي اجتاح دول العالم دون استثناء، ما أدى إلى شلّ الاقتصاد العالمي وحركة المواصلات وبالتالي احداث ركود اقتصادي عالمي يذكر بأزمة 1929.. وقد أسفر ذلك عن خسائر اقتصادية بمئات المليارات من الدولارات وإفلاس الشركات، وعشرات ملايين العاطلين عن العمل، وزاد الطين بلة، انهيار اسعار النفط إلى نحو 20 دولار للبرميل، ما تسبب بتفاقم أزمات الدول التي تعتمد في مداخيلها بشكل أساسي على عائدات النفط مثل السعودية. وكان واضحاً أن الولايات المتحدة كانت الأكثر تضرراً اقتصادياً ومالياً واجتماعياً بسبب انتشار الفايروس فيها على نطاق واسع بسبب استهتار واستخفاف ترامب منذ البداية بخطر فايروس كورونا..
لقد فاقمت هذه الأزمات الناتجة عن جائحة كورونا، الأزمات التي تعاني منها أميركا أصلاً بفعل تكاليف حروبها الفاشلة في العراق وافغانستان، وأدت إلى تلاشي كل المكتسبات الاقتصادية التي حققها ترامب باعتماد سياسة تدعم الاقتصاد الأميركي في الداخل وابتزاز دول العالم، لا سيما السعودية بالحصول منها على مئات مليارات الدولارات التي اسهمت في إنعاش الاقتصاد الأميركي وتوفير فرص العمل للعاطلين.. وبات ترامب اليوم في وضع صعب عشية الانتخابات الرئاسية يعاني تراجع شعبيته، ويزيد من أزمته فقدانه إمكانية الحصول على المال من السعودية لأن الأخيرة باتت تعاني من عجز كبير في موازنتها، بعد انهيار أسعار النفط وتوقف مواسم الحج والعمرة بسبب كورونا، والتكاليف الباهظة لحرب اليمن.. وهو ما دفع الحكومة السعودية إلى البحث عن الاستدانة لمعالجة العجز في موازنتها والمبالغ نحو 50 بالمئة .. أمام هذا الواقع اضطر ترامب إلى العودة لإحياء شعاره الانتخابي أميركا أولاً، والعمل على تقليص نفقات بلاده في الخارج إن كان لدول أو منظمات دولية، ولأن ذلك لا يكفي لمواجهة الأزمة الناشئة عن حرب كورونا، قرر القيام بتقليص وجود القوات الأميركية في الخارج لخفض النفقات، وفي السياق سحب ترامب بطاريات باتريوت من السعودية، وقرر خفض مستوى التوتر مع إيران، والقول إن وجود قواته في سورية يقترب من الصفر، في وقت كشف النقاب عن اتصالات أميريكية مع روسيا بشأن الحل السياسي للأزمة..
انطلاقاً مما تقدم يمكن القول إن نتائج حرب كورونا سوف تؤدي إلى تسريع أفول عصر الإمبراطورية الأميركية، وإسدال الستار على نظام القطب الأوحد، لمصلحة التعجيل بولادة نظام عالمي متعدّد الأقطاب، لا سيما أن أميركا ظهرت في ظل مواجهة كورونا، دولة عاجزة عن التصدي للأزمة، وغير قادرة على لعب دور عالمي، فيما الصين تقدمت بدلاً منها ولعبت هذا الدور، وهي مرشحة لأن تخرج من هذه الحرب العالمية، الدولة الأقوى اقتصاديا والتي تملك القدرات على النهوض بالاقتصاد العالمي، في وقت تحتاج فيه أميركا للمساعدة، وهو الأمر الذي يذكر بما حصل بعد الحرب العالمية الثانية عندما خرجت أميركا من الحرب أقوى دولة على المستوى الاقتصادي وقامت بمساعدة أوروبا في إعادة إعمارها في إطار مشروع مارشال.. فالصين اليوم تحلّ مكان أميركا، وما يؤكد ذلك سرعة سيطرتها على فايروس كورونا، وعودة آلتها الإنتاجية للعمل وتسجيلها معدلات نمو 3.5 بالمئة في الشهرين الأخيرين، فيما اقتصاديات أميركا والغرب وغيرها من الدول تعاني من الركود والنمو السلبي بين 7 و9 في المئة تحت الصفر..
(البناء)