تقارير ووثائق

خطة الحكومة المالية الاقتصادية: ما لها وما عليها ناصر قنديل

مقدّمة حول المنهجيّة والمحاور

 

 تثير الخطة التي أقرّتها الحكومة اللبنانية النقاش على الأصعدة السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والاستراتيجية، ولا تأتي نتائج تقييم الاستقطابات التي تنشأ عنها في اتجاه واحد ما يجعل الموقف منها أشد تعقيداً، مما لو كانت تعبر عن وجهة منسجمة وعن سياق واحد في حركتها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية والاستراتيجية. فالواضح أن الخطة على الصعيد السياسي اللبناني ترجّح كفة الحكومة على معارضيها من القيادات السياسية التي توالت على الحكم ورسم خططه السياسية والاقتصادية والمالية لعقود مضت وأسست للانهيار، فهي تسقط الشعار المحوري لوصفتهم للحل الذي يواجهون الحكومة من ورائه، وهو الدعوة للتوجّه لصندوق النقد الدولي. وجاءت الخطة مفاجئة لهم في هذه الوجهة بعد اعتقاد طويل لديهم بأن حزب الله، على الأقل، لن يوافق على خطة هذه وجهتها، وليس مجرد التوجه للصندوق لعرض الخطة، بل اعتبار وجهة الخطة هي توفير شروط العمل مع صندوق النقد الدولي، بينما على الصعيد الاقتصادي فالخطة غامضة رغم تضمنها الكثير من العناوين التي تتحدث عن وجهات اقتصادية محددة، تركز على الطابع الإنتاجي، لأن الخطة كما هو واضح من بنيتها ومن سياق ولادتها التراكمي، تم بناؤها في خدمة وجهة محددة، هي مخاطبة صندوق النقد الدولي، وجرى إلحاق بنود اقتصادية بها جاءت انتقائيّة وغامضة، ويتوقف السير بها على حاصل المواجهات التي افتتحتها، وترتبط فعاليتها وحجم تظهيرها على تداعيات التفاوض مع صندوق النقد الدولي والصيغة النهائية للبيئة المالية والضرائبية والقطاعية والحمائية التي ستنتج عن حاصل هذا التفاوض، بينما على الصعيد المالي فقد عبرت الخطة عن توجهات واضحة في السعي لتوزيع الخسائر المباشرة للمرحلة السابقة بصيغة وضعت الأعباء الأساسية على الذين راكموا أموالهم بالاستفادة غير المشروعة من المال العام، سواء عبر أقنية الفساد السياسي أو المصرفي من خلال الصفقات المشبوهة أو من خلال الفوائد المرتفعة والهندسات المالية، ومنحت حيزاً مهماً لاستعادة الأموال المنهوبة والأموال المهرّبة، بينما بقيت الخسائر غير المباشرة وبعض من الخسائر المباشرة تصيب الفئات ذات الدخل المحدود سواء عبر ما تضمنته من سعي لتثبيت سعر للصرف يعادل ضعف السعر الرسمي لصرف الدولار، وصولاً لتحرير سعر الصرف، مع تثبيت الرواتب في القطاعين العام والخاص، واستمرار الغموض حول مستقبل تصرف المودعين بودائعهم، وجملة من الإجراءات التي تطال هذه الفئات في الصناديق التقاعدية وسواها، وهذا ما جعل مضمونها الاجتماعي تفقيرياً للبنانيين، رغم عدالة الإفقار، الذي سيصيب أصحاب الودائع المتوسطة والصغيرة، كما سيصيب أصحاب الرواتب، والقدرة الشرائية لليرة اللبنانية، ويرفع نسبة المستفيدين من صناديق المعونة الاجتماعية، أما على الصعيد النقدي ففي الخطة من جهة مسعى واضح لتحجيم الدور المتغوّل لمصرف لبنان، ومن جهة سعي مرتبك في التعامل مع سعر الصرف وكيفية التفاعل مع كل سيناريو مفترض، لتحرير تدريجي في سوق الصرف، ويبقى أن الوجهة الاستراتيجية للخطة هي إبقاء لبنان خط اشتباك حول مفهوم السيادة مع تسجيل نقاط تراجع واضحة على هذا الصعيد، لأن الخطة من جهة جعلت نجاحها وفشلها مرتبطين بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي، وما يعنيه من الوقوع تحت الوصاية المالية الخارجية مهما قمنا بتلطيف المصطلحات، ومن جهة مقابلة حددت ثوابت سيادية ستكون موضوع تفاوض مع صندوق النقد، ولا نعلم الحصيلة لجهة القدرة على الثبات في رفض المساس بالثروات السيادية التي تحدثت الخطة عن تجميعها في صندوق سيادي، ليس معلوماً كيف ستنتهي وجهته في نهاية الطريق، عندما يصير القبول بالتعاون من طرف الصندوق الدولي مشروطاً بوجهة تقتضي التنازل عن هذه الثروات وبيع أصولها، تحت شعار الخصخصة الشاملة التي يتمسك بها الصندوق، كمثل الكثير من القضايا التي يتوقف عليها سيادياً مستقبل الحديث النظري عن تطوير قطاعات الإنتاج، سواء دعم القمح ولاحقاً العودة للشمندر السكري وحماية المنتجات الوطنية وتخفيض الاعتماد على المستوردات، وهي قضايا منهجية معاكسة لوجهة تعامل الصندوق معها.

الاقتصاد أولاً ثم المال والنقد

ترتكز الخطة على منهجية تقلب الأولويات، فجعلت الميدان المالي مسرحاً لعملها، وجاء الاقتصاد ليشكل بنوداً تجميلية، ومقتطفات انتقائية تكميلية، بينما لا حاجة للشرح بأن الاقتصاد يشكل الأساس الذي تبنى عليه الخطط المالية، فالخطة لم تجب على السؤال الرئيسي الذي تبنى عليه كل محاولات النهوض أو الترميم بعد الأزمات في كل دول العالم، أسوة بما فعلته بعثة إيرفيد في مطلع الستينيات في عهد الرئيس فؤاد شهاب وبعثة باكتيل في مطلع التسعينيات ورسم السياسات التي بقيت حتى اليوم بعدما أطلقها الرئيس رفيق الحريري، والسؤال هو ما هي الوظيفة الاستراتيجية اقتصادياً للبنان في الاقتصادين الإقليمي والدولي، وفقاً للمعطيات القائمة، بعد تشريح عناصر الخلل التي أصابت الوظيفة السابقة والتي نشأت الأزمة وتفاقمت بفعلها في ظل النظام الاقتصادي والمالي الذي كان قائماً وقادراً على تخطي أزماته من داخله قبلها، ومن خلال هذا البحث العلمي إعادة ترتيب القطاعات والأولويات، فأن يكون اقتصاد البلد قائماً على تخديم الاقتصاد الخليجي ليس نقيصة، عندما يكون ذلك كفيلاً بخلق فرص العمل وتأمين تدفق الأموال، وتحقيق التوازن المطلوب في ميزان المدفوعات، ولو استدعى ذلك تضخماً في القطاعات الريعية على حساب القطاعات الإنتاجية، وجعل المصارف أكبر من الدولة والاقتصاد، وطبيعي عندها أن تكون السياسة الضرائبية للدولة في خدمة هذه الوظيفة، ومثلها السياسات الجمركية، وطبيعي أيضاً أن ترتبط بهذه الوظيفة حركة الأوزان بين القطاعات وأهميتها من جهة، وبين الكتل السياسية وأدوارها وأحجامها من جهة موازية، والخطة لم تقارب هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. فلبنان الذي لعب هذا الدور اقتصادياً قبل الحرب الأهلية ودخل المرحلة الانفجارية اقتصادياً واجتماعياً في ظل تداعيات خسارة هذا الدور مع نمو كل مفاصل قطاع الخدمات الخليجي المنافس والموازي، مصرفياً وتجارياً، أعاد تعويم هذا الدور بعد الحرب وعلى مدى عقدين حتى عام 2010، بقوة تبادل ريعيّ بين تعويم قطاع الخدمات والمصارف والعقارات في لبنان، مقابل دور سياسيّ وأمنيّ للخليج، بات مهماً إقليمياً ودولياً بنظر أصحابه ويستحق هذا الاستثمار المنخفض السعر مقارنة بعائداته، للمخاطر التي كشفتها الحرب لانفلات الوضع في لبنان من جهة، ولصعود المقاومة كقوة إقليمية يجب العمل على احتواء حركتها من جهة موازية. والواضح أن خلاصات التجارب والتطورات الإقليمية قد أدت إلى إعادة النظر بهذا التوظيف، بعدما صارت كلفته مرتفعة بفعل تراكم الديون وارتفاع الفوائد ومحدودية النتائج، وظهور نظريات العقوبات والعزل كبديل دولي وإقليمي لفرض السياسات بدلاً من سياسات الانخراط والتسويات والاحتواء، وبالتوازي ضمور القدرة الخليجية على التمويل بفعل الأزمات المتلاحقة لسوق النفط والاقتصادات العالمية، وفي عالم ما بعد كورونا سيكون الأمر بحاجة لمزيد من التدقيق حول جدوى إعادة الاستثمار على إحياء الدور التبادليّ ذاته، ولو تم تخفيض الكلفة وتحجيم التضخم في أحجام قطاعات كالمصارف والعقارات، ومعها تخفيض مستوى المعيشة من بوابة تحرير سعر الصرف، وعرض قطاعات اقتصادية سيادية في السوق، وإذا كانت هذه هي الوجهة المضمرة للخطة فيمكن مناقشتها من هذه الزاوية، ومقاربة درجات الجدوى والمخاطر. وهو أفضل من أن تكون الخطة قد تجاهلت هذا الأمر الحيوي والتأسيسي لأي خطة، وما يجب أن يجيب عليه واضعو الخطة هنا هو: هل يقومون بترشيق أرقام الدولة والاقتصاد لعرض تبادلي جديد مع الاقتصاد الخليجي والدولي، من بوابة الرهان على أن الاستقرار في لبنان حاجة دولية وإقليمية، ما يستدعي تمويل لبنان لمنع الفوضى، ويعتقدون أن المشكلة هي في الكلفة المرتفعة بسبب تراكمات العقدين الماضيين، حتى عام 2010، عندما بدأ ميزان المدفوعات يدخل الاختلال السلبي التراكمي؟ وفي هذه الحالة يجب التحدّث في السياسة عن ماهية شروط هذا الدور، سواء بنظر الخارج الغربي والخليجي، أو بنظر القوى المعنيّة في الداخل، وفي طليعتها المقاومة، واللافت أن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يشكل نقطة تقاطع مصلحية مع الغرب يبدأ من مستقبل وجود النازحين السوريين، وقد غاب كلياً عن الخطة إلا لجهة تظهير أرقام كلفة النزوح السوري على الاقتصاد. وهو ما كان يستدعي جعل التركيز على طلب تمويل موازٍ لهذه الكلفة وفتح الباب لتعاون دولي إقليمي مع لبنان لتسهيل عودة النازحين وتمويل هذه العودة، بما يتضمنه ذلك من تمويل وتغطية لتعاون حكومي لبنان سوري، خصوصاً أن الأبعاد السياسية الأخرى ذات المترتبات الأمنية لا تبدو مواضيع تفاوضية تنتج التسويات، خصوصاً ما يتصل بدور المقاومة، على الأقل في ظل التوازنات والسياسات الراهنة لكل من دول الخليج والدول الغربية.

إذا لم تكن الخطة قد أجابت افتراضياً على سؤال الوظيفة الاستراتيجية للاقتصاد اللبناني في الإقليم والعالم، بالسعي لتجديد الدور التبادلي المالي السياسي، بكلفة أقل، فهي مجرد ورقة مالية بنيات اقتصادية طيبة بلا خطة، تتكرّر فيها كلمات الريعي والإنتاجي بعيداً عن أي تصور عملي مدرك، لنتائج تغييب الإجابة عن سؤال الدور والوظيفة، المفترضين للاقتصاد اللبناني في الإقليم والمنطقة، وإذا كان الدور الريعي السابق قد تراجع كثيراً وظروف إعادة إنتاجه معقدة ومؤجلة، والتفكير جدّي برسم دور مختلف، فقد وقع أصحاب الخطة بهندسة مالية عكسية لهندسات مصرف لبنان التراكمية، لكن لحساب الدور الريعي نفسه، فغاب كلياً عن الخطة أي توصيف لدور اقتصادي جديد يلعبه لبنان في المنطقة والعالم ترتكز عليه الخطة وأولوياتها وتخدم تحقيقه أرقامها، وربما لو حضر هذا الفهم بالحجم والقوة اللازمين، لتغيرت معه الكثير من معالم الخطة وتوجهاتها، ولن يكون صعباً وضع اليد على عناوينه الرئيسية بمجرد مقاربة الجغرافيا الاقتصادية، التي تضع لبنان في قلب حضن سوري عراقي مفتوح على خطط إعادة الإعمار ومتطلباتها، وخطط نهوض اقتصادي يملك لبنان الكثير لملاقاتها، وساحتا العراق وسورية تملكان مقدرات نفطية وإنتاجية تتيح تبادلاً عالي القدرة على تحقيق فوائض وسد احتياجات، يكفي التذكير من بينها بأنبوب النفط الذي يربط كركوك العراقية بطرابلس اللبنانية عبر الأراضي السورية، وبخط عصري لسكك الحديد الافتراضي بين مرفأ بيروت وبغداد، ونتائج اعتماد تسعير ثنائي للعملات الوطنية بين المصارف المركزية وما سينتج عنه من تبادل هائل لا يؤثر على ميزان المدفوعات، ولم يكن غياب هذه الرؤية التي يرتبط بها كل حديث عن الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، مجرد صدفة أو نتيجة عدم انتباه.

في السياق المنهجي ذاته لأولوية الاقتصاد والبحث بمحاوره وعناوينه، يرد خلل الميزان التجاري كعامل ضغط على ميزان المدفوعات. وقد تحدثت عنه الخطة كثابت يفسر مصادر الضغط على العملة الوطنية، لكنها تجنبت الخوض في الأهم، وهو كيفية خفض تأثيراته السلبية وتحويلها إلى إيجابية. فتخفيض فاتورة الاستيراد يبدأ من الفاتورة النفطية المتضخمة باعتماد اتفاقات تبادل النفط الخام بالمشتقات المكررة، عبر الاستثمار على موقع لبنان الجغرافي على البحر المتوسط، وهو ما أدركه العالم مبكراً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عندما أنشأ خط التابلاين الآتي من السعودية وخط الآي بي سي الآتي من العراق، وإنشاء مصفاتي الزهراني وطرابلس في نهاية كل منهما، وفي فاتورة الاستيراد المتضخمة، ما كانت تنتجه الصناعة اللبنانية من ملابس ومواد غذائيّة واستهلاكية، فلبنان يستهلك من الألبان والأجبان والعصائر التي كان يصدرها في الماضي مستوردات من الخليج تزيد عن مئتي مليون دولار سنوياً، وكل الصناعات الوطنية تقريباً تمّ تدميرها خلال العقود الماضية بفعل السياسات الريعية كأولوية، ولا تعيد إحياءها إلا سياسات جمركية وتسهيلات ائتمانية. وبالمناسبة يلفت كل خبير اقتصاديّ كيف لم يلتفت من وضعوا الخطة إلى أن الدور الذي لعبه لبنان واقتصاده بالنسبة للخليج في الستينيات والسبعينيات، ولاحقاً في عقدي ما بعد الطائف، هو الدور الواعد ذاته للبنان تجاه سورية والعراق، بما في ذلك كسوق للمنتجات والخدمات والسياحة والمصارف والعقارات والمستشفيات والجامعات وسواها.

تضخيم الخسائر أم إعادة الرسملة

ثمة أكثر من وجهة علمية لقراءة أرقام المالية اللبنانية، سواء مالية الدولة، أو مالية مصرف لبنان ومالية المصارف، وفي بعضها المتطرف، والخطة تنتمي لهذا البعض، تكون عملية احتساب الخسائر، هي الغالبة، فيصير إسقاط الخسائر بمبادلتها محاسبياً بالموجودات، فتبدأ الخطة بموجودات المصارف وهي راسمالها وعقاراتها، ثم موجودات مصرف لبنان، وهي رأسماله وسنداته وصولاً للذهب في النهاية حتى لو تجاهلته الخطة، وانتهاء بالدولة التي تنشئ لها الخطة صندوقاً سيادياً يضم موجوداتها، بقي الغموض يلف مصيرها فيه. ويبقى السؤال عن موجودات المودعين الذين تعرض عليهم الخطة أسهماً في ملكيات المصارف التي تقارب حال الإفلاس بديلاً عن ودائع لا ينتمي أغلب أصحابها إلى نادي الذين استفادوا بشكل غير مشروع من المال العام، ومن طرائف الخطة هنا احتساب الخسائر بالليرة اللبنانية فتصل إلى أكثر من مئتي تريليون، واحتساب المطلوب بالدولار، ليظهر أنه عشرة مليارات فقط، وعدا طرافة وحدتي الاحتساب ليظهر تريليون مقابل مليار يصير السؤال، إذا صح الرقم الأول فكيف للرقم الثاني أن يصح والعكس صحيح، وهذا ما تهربت الخطة من شرحه اعترافاً ضمنياً بهذا التناقض، بينما وفقاً لتطرف معاكس نؤمن بصحته، يمكن لحساب الخسائر أن يصل إلى أقل من ربع الرقم المحتسب للخسائر، إذا بدأ بالعكس، أي من ترسمل الدولة بتثبيت عدم الاستعداد لوضع ملكيتها لأصولها وموجوداتها قيد البحث والتفاوض، والانتقال إلى تحويل استثمار حقوق الدولة بما فيها تلك غير المستثمرة إلى شركات رأسمالية تمنح بموجب قوانين امتيازات استثمار لا تمسّ الملكية، لمدد زمنية تتراوح بين 10 سنوات و25 سنة و49 سنة، وتقييم أسعار أسهمها وفقاً لمداخيل محققة في المعدل الوسطي لدخل السنوات العشر الماضية، بالنسبة لشركات الحقوق المستثمرة كالاتصالات والمرافئ والمطار وشركتي الميدل إيست والكازينو، وتصويب وضع شركة الكهرباء قبل إعادة تقييمها، وتقييم القيمة التأجيريّة لشركة استثمار الأملاك العقارية للدولة بالأسعار الرائجة، كعائد سنوي محقّق يفترض أن يعادل 10% من رأسمالها إذا منحت حق الاستثمار لـ 49 سنة، والتفاوض مع شركاء استراتيجيين في كل من هذه الشركات لتولي إدارتها لقاء نسبة مئوية من عائداتها، بعد تقييمها من شركات متخصصة، ومن ثم مبادلة نسبة من الأسهم تعادل نسبة من ديون مصرف لبنان على الدولة، بعد شطب ما يجب شطبه من هذه الديون الدفترية التضخمية، ليتولى مصرف لبنان مبادلة موازية للأسهم لقاء السندات وودائع المصارف، مع هذه المصارف بعد إعادة تقييم للفوائد المستحقة والمدفوعة لعشر سنوات مضت على الأقل وبعد إعادة الأموال المهرّبة وضمها، لتقوم المصارف بدورها بوضع هذه الأسهم التي حصلت عليها وموجوداتها العقارية ورأسمالها وأسهمها في سلة موازية أمام كبار المودعين لمبادلة نسبة من ودائعهم، بعد حسم ما يلحق بهم من فوائد، على أن تجري كامل هذه العملية بإشراف لجنة مختصة مالية قضائية، خلال مدة سنة، تنتهي بترسمل ماليّ للقطاع المصرفي، وبتحرير الودائع، وتنتهي معها عملية التحقيق والتدقيق في الحسابات المشكوك بعلاقتها بالفساد والحصول على المال العام بطريقة غير مشروعة على يد لجنة موازية، فنصل إلى معادلات مالية لقيمة الخسائر الصافية فيها لا تتعدى 20 مليار دولار، يمكن استيعابها في عملية إعادة الترسمل خلال سنوات قليلة، يتم توزيعها على عملية هيكلة الديون المتبقية بسندات جديدة، يتحمل وجودها الاقتصاد، وتتحملها المالية العامة، بالتوازي مع هيكلة الديون الخارجية بأسعار شراء جديدة وأسعار فوائد جديدة، ربما يكون قيام المصارف التجارية بها هو الأنسب بدلاً من الدولة. ومن المفيد لفت النظر إلى أن الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي يبدأ بدفع المصارف للانتقال من الاستثمار في مداخيل ريعية مع الدولة إلى الاستثمار الإنتاجي في قطاعاتها. وهذا معنى التشركة القائمة على حفظ ملكية الدولة لأصولها وموجوداتها، ونقل الضوابط المصرفية إلى إدارة هذه الاستثمارات.

إن مالية الدولة المحملة بديون لا تتعدّى 20 مليار دولار بفائدة لا تتعدّى وسطياً الـ 5% بين سندات الليرة والدولار، ستكون قادرة على سداد خدمة دين تبدأ استحقاقاتها بعد خمس سنوات، قيمتها لا تتعدّى مليار دولار سنوياً، يكون الاقتصاد خلالها قد انطلق في محاوره الجديدة، وتكون فاتورة الاستيراد قد تقلصت إلى النصف، وفاتورة النفط قد تمّ تدويرها في عملية إنتاجية ترتبط بالنفط الخام والمصافي، وتكون مستوردات العراق وحدها تكفلت بمضاعفة عائدات مرفأي بيروت وطرابلس، وخطوط سكك الحديد بين لبنان وسورية والعراق قد تكفّلت بتحقيق ديناميكية تسويقية تبادلية للبضائع والخدمات من خارج التأثير على ميزان المدفوعات سلباً، وغير هذا الكثير الكثير ما يمكن قوله ويجب قوله.

أولويّة الرواتب وفرص العمل والصحة اجتماعيّاً

على الصعيد الاجتماعيّ ركزت الخطة على عاملين: واحد إيجابي وهو الابتعاد عن التفكير بزيادات ضرائبية على الطبقات الفقيرة، وواحد سلبي وهو استبدال التفكير بمصير الرواتب وفرص العمل بالتركيز على صناديق المساعدات، خصوصاً أن السياسة النقدية التي تجاهر بالسعي لتحرير سعر الصرف، رغم تأجيل الأمر في القرار التنفيذي، ستتكفل بزيادة نسبة البطالة وتآكل القدرة الشرائية، ما يجعل الغائب الأكبر عن الأرقام الكثيرة التي وردت في الخطة، هو الإجابة عن سؤال حول نسبة البطالة المتوقعة للسنوات الخمس للخطة بمؤشر قياس مرافق لما تضمنته من مؤشرات موازية، ومثله مؤشر لمتوسط الدخل وقدرته الشرائية بالأسعار الجارية مقارنة بخط الفقر. وقد تفادت الخطة بغير وجه حق الحاجة لتصحيح تدريجي للأجور سنوياً على الأقل بنسبة 25% لخمس سنوات ستكون حصيلته تعويض طويل الأجل لانخفاض فوري في القدرة الشرائية في السنة الأولى بـ 100%، وهذا ما يؤكد الطابع المالي الطاغي على الخطة، وافتقارها لمنهج اجتماعي يقف في خلفية تفكير واضعيها، يعتبر أن الأصل في كل خطة هو المواطن اللبناني، وليس النجاح في تقديم عمل محاسبي فقط، فتلك مهمة المدقق المالي بعد أن ترسم الحكومة خطتها المبنية على استهداف رئيسي هو الإنسان. ومعلوم أن البعد الاجتماعي للخطط الاقتصادية يرتسم بمعادلات ومؤشرات، أولها نسبة البطالة وثانيها مستوى الدخل والقدرة الشرائية وثالثها الضمانات وفي مقدمتها الصحة، خصوصاً أن تجربة الحكومة أظهرت أهمية القطاع الحكومي الاستشفائي مقارنة بالقطاع الخاص في مواجهة كورونا، كما أظهرت حجم التضخم المفتعل في الإنفاق الصحيّ وما يرتبه على الدولة، عبر فوضى القطاع الخاص وفساد بعضه الكثير سواء في سوق الدواء أوالاستشفاء.

ديناميكيّة الخطة مؤشر إيجابيّ

تمتاز الخطة بديناميكيّة ستنجم عن إطلاقها، تمنحها الحق بطلب فرصة، فهي ستفتح مواجهة بموازين قوى جديدة مع القوى السياسية المعارضة التي تشكل المسؤول الرئيسيّ عن بلوغ لبنان مرحلة الانهيار، وتتعهّد بفتح ملفات الفساد، وستفتح مواجهة واضحة مع المصارف التي تتحمل مسؤولية كبرى في تفضيل الجشع الريعي على المسؤولية المهنية عن الودائع وعناصر أمان استثماراتها، وتضع مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي أمام اختبارات، وتتيح استكشاف حجم التمسك الدولي والإقليمي بالاستقرار اللبناني، ومن خلال ذلك تظهير حجم الاستعداد لتمويل هذا الاستقرار وبأي شروط. وهنا سيكون لحجم التمويل المعروض ونوعية الشروط قيمة أساسية اختبارية، لكن سيبقى موضوع الصندوق السياديّ لموجودات الدولة موضوع معركة كبرى، ستظهر خلاله نيات وتوجهات مكوّنات الحكومة في التعامل مع هذه القضية السيادية المركزية. وهذا يدعو لفتح العين من موقع القبول بمنح الفرصة للحكومة وخطتها لاختبار الفرص والخيارات، ورسم التوازنات السياسية والمالية داخلياً وخارجياً، لكن على قاعدة الحذر والتحسب الدائمين، والاستعداد لجعل البعد السيادي لملكية الدولة لأصولها الخط الأحمر الذي يجب أن تسقط عنده أي إيجابية واستعداد تجاه التعامل مع صندوق النقد الدولي، سواء داخل الحكومة أو في مجلس النواب أو في الشارع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى