تقارير ووثائق

ترامب يستعجل إعادة فتح المرافق الاقتصادية معرّضا العمّال للخطر د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

         التحليل الدوري لمركز الدراسات الأميركية والعربية

 

تداعيات فايروس كورونا بدأت تتجذّر بصورة سوريالية على الداخل الأميركي، في ظل “التقصير” الرسمي وانكشاف أبعاده المخيفة. الإدارة الأميركية تستجيب لضغوط سوق المال والأعمال بضرورة استئناف الأعمال الاعتيادية وتنشيط عجلة الانتاج، مقابل انقسام شعبي ورسمي بيّن، محوره السلامة العامة ومراعاة الالتزام بإجراءات العزل والتباعد الشخصي.

         عضو فريق البيت الأبيض الصحي، الدكتور آنثوني فاوسي، حذّر من ميل ولايات ومدن متعددة “للقفز على متطلبات المرحلة الأولى من الإجراءات الفيدرالية لإعاد افتتاح المرافق قبل الأوان،” وذلك بالتباين مع توجهات الإدارة الأميركية في هذا الصدد.

         أكثر من نصف عدد الولايات الخمسين تجاوبت مع دعوة الرئيس ترامب لرفع إجراءات العزل، وإن تدريجياً بقرار من حاكم الولاية المعنية. بعض الولايات سمحت لقطاع التجارة بالتجزئة والفندقة والمطاعم بفتح أبوابها “مع الالتزام بتقييد العدد الأقصى للمواطنين المسموح لهم التجمهر في آن واحد.”

         المواطن الأميركي عبّر عن “ضيق وتذمّر” من حجرٍ لم يشهده مطلقاً وينتهك الضوابط في العصر الحديث. من بين الاحصائيات الدّالة أفادت شركة “يوناكاست،” المعنية برصد وتحليل بيانات الهواتف النقالة، أن يوم الجمعة، 25 نيسان/ابريل، شهد 103 مليون زيارة لمراكز التسوق، لكن بيانات المبيعات لم تتوفر على الرغم من تلقي قطاع لا بأس به من المواطنين شيكاً حكومياً مقطوعاً قيمته 1200 للفرد، لن يفي بمطالب الشعب الأميركي لإنقاذه من وطأة الجائحة.

         قلّة من الولايات، أبرزها “ساوث داكوتا” لم تُصدر أو تُلزم مواطنيها بأمر بالحجر المنزلي منذ بداية انتشار الفايروس، بينما سمحت سلطات ولايات أخرى باستئناف المرافق الصحيّة مهامها الاعتيادية، من ضمنها إجراء العمليات الجراحية.

         على الطرف المقابل، في ولاية مشيغان “تسلّل مئات المتظاهرين وبعضهم مسلحون” لمقر الكونغرس المحلي، دون ارتداء معظمهم للكمّامات الطبية، احتجاجاً على تمديد المسؤولين لحالة الطواريء والقيود السارية لمكافحة فايروس كورونا لنهاية شهر أيار/مايو الجاري.

أجهزة الشرطة المحلية هناك أفادت أن “كثيرين من المحتجّين هم من مؤيدي الرئيس ترامب.” عضوة الكونغرس المحلي السيناتور ديانا بولانكي أوضحت أن بعض زملاءها سارعوا لارتداء سترات واقية من الرصاص بعد صعود مسلحين على شرفة قاعة الاجتماعات.

         عودة مَرافق الاقتصاد الأميركي لنشاطاتها بمعدلات أعلى من السابق لن تتم إلا بتدخل مباشر من الدولة المركزية، وفق الخبراء الاقتصاديين، الذين يشيرون إلى قرارات الرئيس ترامب يفرض بموجبها على بعض المصانع الكبرى انتاج مواد يحتاجها الاقتصاد بصورة عاجلة مثل الأجهزة والمعدات الطبية.

         استرضاءً لكبريات المؤسّسات التجارية أقدم الرئيس ترامب، بموافقة خصومة في الحزب الديموقراطي، على منحها “قروضاَ وهبات غير مقيّدة” قيمتها الأولية 500 مليار دولار، استفاد منها قطاع الطيران وصناعة السيارات والأغذية والمصارف الكبرى وآخرين. وضخّ أيضاً سيولة كبيرة في عجلة الاقتصاد لصالح مؤسّسات متوسّطة الحجم، لكن غالبيتها الساحقة ذهبت لجيوب كبار المستثمرين.

         يشير خبراء الاقتصاد الأميركي إلى أن تلك الوصفة، ضخ سيولة قوية، هي من سمات اقتصاد الحرب، مما قد يؤشر على نوايا المؤسسة الحاكمة في المرحلة المقبلة، لا سيما ضد الصين وروسيا وإيران، نشهد بوادرها في تعزيز الولايات المتحدة لتواجدها العسكري في المياه الإقليمية للصين وإيران.

         في السياق عينه، تقف مدينة نيويورك، العاصمة الاقتصادية للبلاد، على حافة الإفلاس وتعاني عجزاَ في موازنتها يبلغ “116 مليار دولار لعام 2020، ومرشح للارتفاع لنحو 123 مليار لعام 2021.”https://cbcny.org/research/nyc-debt-outstanding  

         شريحة ذوي الدخل المحدود وما كان يعرف بالطبقة الوسطى هي المتضرّر الأكبر من عملية اغلاق الاقتصاد، التي تقلصت مداخيلها بمعدلات ملحوظة، وكانت عماد الإنتاج المدني من سلع وخدمات مختلفة. من غير المرجّح في المدى المنظور أن يحظى القطاع العريض المتضرر من الإغلاق بمساعدة مالية إضافية، على الرغم من التوسلات المتكررة للإدارة بذلك.

         يشار إلى أن الإدارة الأميركية استثنت من المعونات المالية المقررة قطاعاً واسعاً من العمال الموسميين يقدر بنحو 4،5 ملايين، بعضهم لا يحمل أوراقاً ثبوتية، والسواد الأعظم يُقتطع من أجره المتدني أموال لضرائب مركّبة.

         لخّصت يومية “نيويورك ريفيو” تفاقم الأزمة، اقتصاديا وصحياً،  بالقول إن “أميركا لم تكن يوما مصَمّمة لتوفير العناية لأولئك الذين يسهمون في بنائها، أو لمنحهم حقوقهم.” (27 نيسان/ابريل 2020).

         على الرغم من الضخ الرسمي من أموال استفادت منها المؤسّسات الكبرى بالدرجة الأولى، يرفض قطاع المصارف خفض أسعار الفائدة على ديون “البطاقات الائتمانية” التي ترزح تحت كاهلها تلك الشرائح المتضرّرة، وناهز حجم ديون تلك البطاقات العائدة للأسر الأميركية مليار دولار.

الإغلاق يؤدي للكساد

         قرار عودة الاقتصاد إلى وتيرة ربما أعلى من ذي قبل مرغوب ومطلوب في آن معاً، مهّدت له المؤسّسة الحاكمة بتدخل الدولة مباشرة بتوفيرها السيولة المالية، لكن من دون الإشراف المباشر على القطاعات الإنتاجية لضبط سيرورتها. القرار رمى أيضاً لطمأنة اليد العاملة إلى استئناف نشاطاتها بالاستناد إلى بيانات صحية مضلّلة تفيد بالتوصل للقاح يخضع للتجارب المخبرية.

         تنشط الإدارة الأميركية في تجنيد شخصيات مؤثرة في كافة المستويات لدعم قرارها باستئناف النشاط الاقتصادي، في ظل ضبابية وعدم اليقين من تأثير الفايروس على مجمل الاقتصاد، توظف فيه شبكة فوكس نيوز، وبالاستناد أيضاً إلى بعض التجارب الاوروبية، السويد مثلاً التي رفعت اجراءات الحظر، وأيّدتها منظمة الصحة العالمية.

         شهد شهر نيسان/ابريل المنصرم إغلاق بعض من أكبر مؤسّسات توريد اللحوم بكافة أنواعها، نتيجة إصابة بعض عمّالها بالفايروس. وانعكس ذلك على أماكن التسويق التي اختفى منها بعض تلك المنتجات. المفارقة أن أسعار اللحوم المتوفرة ارتفعت منذ انتشار الفايروس، بينما انخفضت أسعار الأبقار والثروة الحيوانية لدى المزارعين، وانهارت بعض المزارع تماماً.

         إحدى كبريات تلك المؤسّسات “تايسون فودز” شنت حملة إعلامية تحذر فيها من نقص الإمدادات وتضرّر شبكة التوزيع. وجاء في إعلان صحفي مدفوع الأجر “مسالخ تعبئة لحوم الخنزير والبقر والدجاج اضطرت لإغلاق أبوابها .. ستختفي ملايين الكميات (المعتادة) من شبكة التوزيع .. شبكة توريد الأغذية تنهار.”

         الرئيس ترامب بدوره تدخّل بتفعيل قرار رئاسي في حالات الطوارئ يُلزم فيه تلك المؤسّسات إعادة فتح أبوابها خلال الأزمة، خشية مزيد من التدهور الاقتصادي وتردي السلم الاجتماعي، ودرءاً لاستيراد اللحوم من البرازيل واستراليا لسدّ الحاجات المحلية.

         تصنيفات ومهارات اليد العاملة لن تعود إلى حالها السابقة في بعض القطاعات، خاصة الخدماتية وانتاج المواد الغذائية، من جراء تداعيات فايروس كورونا. ومن المرجّح أن تعاني تلك القطاعات من نقص في الأعداد والمهن الضرورية للمحافظة على معدلات انتاجية مقبولة.

         عانت الولايات المتحدة من نقص شديد في الأيدي العاملة في عام 1942، عقب دخولها الحرب العالمية الثانية، واضطرّت لإبرام اتفاقية مع المكسيك توفر بموجبها أيدي عاملة “لمديات قصيرة برواتب متدنية” لسد النقص الكبير، واستمر العمل بها لعام 1964، “استفاد” منها نحو 4،5 مليون عامل تعرّض معظمهم لحالات من الاضطهاد وتدني الأجور والملاحقة والتسفير، كما هو الحال في المرحلة الراهنة.

         المؤسّسات الإنتاجية الأميركية التي استأنفت نشاطاتها، وفازت بمعونات وهبات مالية، لم تستطع توفير بيانات مؤكدة حول حجم الأضرار التي تعرّضت لها أو المنافع العائدة عليها، أو التأكيد بأن مصدر الأضرار ناتج عن انتشار الفايروس.

         تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى بين الدول الصناعية، مجموعة العشرين، لحجم اليد العاملة التي لجأت لبرامج المعونة نتيجة فقدانها فرص العمل، نحو 15% وفق  البيانات المتوفرة. بالمقارنة، شهدت ألمانيا تقلصاً في عدد العمال للحصول على المعونات الرسمية، نحو 20% (دراسة “لمعهد بروكينغز،” 27 نيسان/ابريل).

         وزعمت الدراسة أنه لا توجد “علاقة واضحة بين سياسة الابتعاد الشخصي وحجم الضرر الاقتصادي،” على الرغم من استنادها إلى بيانات واحصائيّات ضئيلة حين توفرها، مما سيعزز توجهات الإدارة الأميركية وأرباب كبريات الشركات الدفع باتجاه استئناف عاجل لعجلة الانتاج الاقتصادي.

         غاب عن الدراسة الإشارة إلى الدوافع المالية التي تتحكم بالقرار السياسي. عودة بعض القطاعات العمالية لوظائفها سيوفّر على الدولة الفيدرالية وصناديق التعويض عن العمل في الولايات المحلية أموالاً كبيرة سرعان ما استنفذ جزء ليس يسير من تلك الصناديق، من دون أفق واضح.

         محصلة الأمر أن القوى العاملة، عمّالاً وموظّفين، ستضطر للعودة إلى ممارسة أعمالها، ولو جزئياً، من دون توفير الدولة والأجهزة المحلية المختصة ضمانات صحية، ومن يتعرض للإصابة سيتم استبداله بآخرين بصرف النظر عن تحذيرات المرجع الصحي الأعلى في طاقم البيت الأبيض من مخاطر العودة المبكّرة من دون احتواء الفايروس.

الاستغلال البشع لليد العاملة قبل كورونا مستمر خلالها، وبدلا من أن يكون عيد العمال مناسبة للإحتفاء بدورها الحيوي في عجلة الحياة لكل المجتمعات، يتم تعريضها لأقصى المخاطر من دون تقديم أدنى الحقوق والمكتسبات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى