استخدام كورونا د. بثينة شعبان
نجحت روسيا والصين وإيران وسورية إلى حدّ ما بإثارة ضجة عالمية حول الإجراءات القسرية الأحادية الجانب وتأثيرها الخطير على قدرة الدول والشعوب على مواجهة الجائحة العالمية المتمثلة بكورونا؛ إذ لم توفر موسكو منبراً ثنائياً أو أممياً
إلا وأثارت فيه ضرورة رفع العقوبات الغربية عن الشعوب، كما وجّهت مع ستّ دول أخرى رسالة إلى الأمم المتحدة للمطالبة بـ »الرفع الكامل والفوري لتدابير الضغط الاقتصادي غير القانونية والقسرية«، وخاصة أنّ هذه التدابير تؤثر بشكل خطير على محاولات الدول مكافحة »كوفيد19«، وطالبت بعدم تسييس هذه الجائحة، فما كان من الولايات المتحدة، وبعد أن تمت تسمية إجراءاتها بجريمة حرب في زمن الجائحة، إلا أن أصدرت ما أسمته »ورقة حقائق« تشرح من خلالها التدابير المتخذة بحقّ الدول، وتبرز حسب زعمها أنّ الغذاء والدواء غير مشمولين بقائمة العقوبات. ولكن الورقة تحتاج إلى خبير لغوي كي يفكّك الألغام المتضمنة وإلى معرفة عميقة جداً بالسرد اللغوي والسياسة كي يفهم فعلاً ما هو المقصود، وكي يكتشف في النهاية أن »ورقة العمل الحقائق« هذه تمنع منعاً باتاً على الدول المعنية استيراد الدواء أو الغذاء أو احتمال إرسال قيمة مستوردات إلى أيّ بلد في العالم. ففي الورقة عن سورية تبدأ بفقرة مفادها: أن العقوبات تهدف إلى منع »الرئيس السوري ومن معه ومساعديه الأجانب والحكومة السورية من التعامل مع النظام المالي الدولي وسلسلة الدعم العالمية. كما أنّ فاعلين آخرين مثل إيران وروسيا تصدر بحقّهم عقوبات إضافية أخرى«. إذا كانت الحكومة السورية غير قادرة على التعامل مع النظام المصرفي المالي العالمي، فكيف لها أن تستورد أيّ دواء أو غذاء، وكيف لها أن تدفع قيمة ما تستورده. وتتابع »الورقة« بالالتفاف على الحقائق لتصبح أنموذجاً للإساءة للغة واستخدامها من أجل تشويه وطمس الحقائق والتلاعب بها، وذرّ الرماد في العيون في محاولة يائسة لتبرئة الولايات المتحدة من الجرائم ضدّ الإنسانية التي ترتكبها بعد أن شكّلت هذه الجرائم سياقاً دولياً مقنعاً وأصبح محرجاً لها. والمشكلة أن البعض أسمى هذه الورقة »رفع العقوبات« أو التخفيف منها، بينما لم تكن سوى تلاعب سياسي ولغوي يهدف إلى وقف الهجرة الإنسانية القانونية في وقت تؤدي به هذه العقوبات إلى قتل البشر. ونظام العقوبات هذا يجب أن يكون مرفوضاً جملةً وتفصيلاً لأنه يعبّر عن هيمنة مرفوضة خارج إطار القانون الدولي والشرعية الدولية، ولذلك فإنّ المطالبة يجب أن تركّز على إلغاء هذا النظام الإجرامي برمّته، وليس على رفع العقوبات هنا وهناك أو بين فترة وأخرى. ولكن للورقة مدلول آخر أيضاً وهو أن »كوفيد 19« لم يمنع الدول الغربية من الاستمرار في أساليبها الإجرامية باستهداف الملايين من شعوبنا، ولم يؤثر الحجر على وقف هذا الاستهداف أو حتى التخفيف منه. فخلال جائحة كورونا هذه نلاحظ جمسعاَ شدّة الاستهداف لاستقرار العراق، واتخاذ خطوات متسارعة لتقويض ما أنجزه الحشد الشعبي في المرحلة السابقة من محاربة حقيقية للإرهاب على أرض العراق، وتحقيق سمعة مستحقة في الذود عن البلاد وتقويض النزاعات الطائفية التي حاول المستعمرون غرسها في غفلة من الزمن لنهب ثروات العراق، وتأسيس علاقات مع الصين لو سُمح لها أن تُترجم على أرض الواقع لأنعشت العراق وساعدته على السير بخطوات غير مسبوقة نحو التعافي الحقيقي. وبدلاً من ذلك، فإننا نشهد اليوم تدخلات سافرة في العراق هدفها أن يصبح العراق دولة فاشلة، وأن يغدو التقسيم الطائفي في المستقبل الحلّ الوحيد للجميع، كما أن داعش عادت إلى الظهور في مناطق عدّة بعد إضعاف الحشد الشعبي لها، وإلهاء العراق بمبادرات تهدف جميعها إلى عدم عودة السيادة والقرار المستقلّ إلى أبنائه. وفي لبنان نشاهد جميعاً التدخلات التي تهدف أيضاً إلى إدخال لبنان في دوامة صراعات تزيد من ضعفه وإنهاكه الاقتصادي، وتبعده أشواطاً كبيرة عن التعافي الذي أصبح ضرورة مجتمعية وسياسية واقتصادية لجميع اللبنانيين. وطبعاً لا يمكن أن تكون سورية بعيدة عن هذا الاستهداف الممنهج والمركّز، والذي لم يؤثر كورونا حتى في إبطائه، ولا نقول إيقافه. وكذلك الحال في ليبيا والتصعيد في القصف اليومي للمناطق المدنية في اليمن.
ففي غمرة هذه الجائحة يصدر المعهد الأوروبي للعلاقات الدولية، وهو مؤسسة بحثية مركزها برلين، بحثاً بعنوان »الانخراط مع المجتمع إلى الحدّ الأقصى«، ويهدف هذا العنوان المخادع إلى اختراق المجتمع السوري من الداخل بعد أن فشلوا في فرض خططهم الإجرامية على سورية رغم كلّ الأدوات والتمويل الضخم لفرض السيطرة على مقدرات شعبها. وفي هذه الدراسة تظنّ أنّ دول الاتحاد الأوروبي ما زالت كتلة واحدة متعاضدة ومتكاتفة فقط حين يتعلق الأمر بالتخطيط لفرض هيمنة ليبرالية غربية على بلداننا وعدم السماح لها أبداً بالحفاظ على قرارها المستقلّ. وتهدف هذه الدراسة إلى »الانفتاح« أي التغلغل في المجتمع السوري في المناطق التي حررتها الحكومة من الإرهاب، وذلك من أجل تجنيد العملاء واستخدام الخونة لبثّ الفتنة، والعمل من داخل المجتمع لخدمة الأهداف العدوانية ضدّ سورية. وتعترف الدراسة أن الدولة السورية قد انتصرت في الحرب، ولكن هذه الدراسة تدعو الحكومات الأوروبية لمنع الحكومة السورية من الفوز بالسلام، وأن الهدف المعلن لهذه الدراسة هو »تغيير سلوك النظام السوري«، تماماً كما أعلنوا هدف السياسة الأمريكية حيال إيران ألا وهو »تغيير سلوك النظام الإيراني«، وهذا هو الفصل الأخير من محاولات الليبرالية الجديدة بفرض أنموذجها وأسلوب حكمها على بقية شعوب الأرض، وهذا يبرهن أيضاً، بما لا يقبل الشكّ، أنّ هدف الدول الغربية ليس »الديمقراطية« ولا »حقوق الإنسان«، ولكنّ هدفها هو أن تعيد فرض هيمنتها على هذه البلدان والشعوب وفق مصالحها من خلال عملاء لها، وأن تتمكن من نهب ثروات هذه الشعوب وهذه البلدان، وأن تبقى هي السيد الأبيض الحاكم بأمر الله، وأن يبقى الآخرون عبيداً مطيعين وحسب. السؤال الذي أودّ أن أطرحه الآن: كيف تستمرّ كلّ هذه المحاولات العميقة ضدّ بلداننا رغم خطر كورونا، والذي من المفروض أنه شغل الدول الغربية، واستنفذ طاقاتهم التآمرية، أم أنّ كورونا غطاء لحرب عالمية ثالثة تجري اليوم في العالم هدفها الحدّ من تقدّم الصين الاقتصادي، وإرغامها إن أمكن على شطب الدَّين الأمريكي، أو سرقة سيولتها بأيّ ذريعة كانت، وأيضاً الانقضاض على منطقة الشرق الأوسط وتغيير »سلوك أنظمتها« إذا لم يتمكنوا من تغيير الأنظمة ذاتها بما يخدم أجندات السياسة الليبرالية في الغرب، ويحافظ على عنصر الهيمنة الذي مردوا عليه، ويمنع التحوّل التاريخي الذي نتابعه جميعاً نحو عالم متعدد الأقطاب، ومختلف جداً في سياساته وجوهره عن النظم الغربية وعلاقاتها بالدول والشعوب الأخرى؟ لو كان تهديد كورونا حقيقياً لهم كما يدّعون، ولو كانوا يشعرون بالهلع الذي خلقوه على المستوى العالمي، لما كانت مراكز أبحاثهم وسياسيوهم متفرغين لكلّ هذه المخططات الشيطانية التي تحاول أن تعيد توازن القوى لصالحهم بعد أن بدا واضحاً أنهم يقفون على الطرف الخاسر منه. هل تمّ تضخيم أثر جائحة كورونا في العالم كي تستغلّ الدول الغربية حالة الشلل العالمية هذه لإعادة سطوتها التي بدأت علائم انهيارها واضحة للعيان قبل كورونا؟ هذا ناهيك عن السؤال من أين أتى كورونا، وما هو مصدره الحقيقي؟ إنّ اشتداد الأزمات السياسية، وظهور مخططات خطيرة على أرض الواقع تطرح أسئلة كثيرة قد تحتاج إلى الانتظار لنرى ما تنبؤنا به الأحداث قبل الإجابة عليها.