من سوليدير الى مصرف لبنان: السـرقة واحدة: هيام القصيفي
ليست السرقة الحالية هي الأولى لأموال المودعين. سبقتها في التسعينات سرقة أخرى لأملاك اللبنانيين تحت اسم سوليدير. القوى السياسية نفسها تقريباً التي غطّت الاولى تغطي الثانية، مع إضافة قوى جديدة سلكت سلوك من سبقها
يقول سياسي مخضرم مرافق لمرحلة ما بعد الطائف إنه يستغرب «استغراب اللبنانيين الكلام عن الهيركات المالي الذي يبتدعه كل يوم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف بالتكافل والتضامن مع القوى السياسية». مردّ الاستغراب، بحسب تفسيره، أن ما يحصل اليوم، من جريمة ترتكب بحق المودعين، حدث مثله هيركات عقاري ومالي بعد 1990، مع إنشاء شركة «سوليدير» التي وضعت يدها على حقوق الناس وأملاكهم فنهبتها بتغطية كاملة من قوى سياسية – معظمها لا يزال قائماً بالأشخاص أنفسهم أو بورثتهم – ومن مجلس النواب والوجود السوري». ويشبّه ما حصل حينها بـ«الـ«head cut» الذي قامت به الترويكا التي كانت قائمة وملحقاتها من زعماء سياسيين، فقد من جرّائه أصحاب الاملاك في وسط العاصمة أبسط حقوقهم المالية والعقارية. فهل ما يحصل اليوم على يد حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، بتغطية من السياسيين أنفسهم والجدد الذين انضموا اليهم، مغاير لما جرى في التسعينيات؟».
لقد حول سلامة المصرف المركزي إلى سوليدير ثانية، بصيتها السلبي الذي طبعها كشركة سلبت حق اللبنانيين في العيش بكرامة وبرخاء ومن دون عوز كما جرى مع كثيرين منهم. وبدل السمعة الحسنة في ظل حاكم غير مشبوه كالراحل الياس سركيس، أو واقف في وجه القوى السياسية كما فعل الراحل إدمون نعيم، صار موقع الحاكم نموذجاً مشابهاً لما فعله الرئيس الراحل رفيق الحريري ومشروعه الاقتصادي و«سياسة حكومته المالية والاقتصادية والاجتماعية الخاطئة التي بلغت بالوطن والمواطنين الى مأزق خطير»، بحسب ما وصفته البطريركية المارونية عام 1998. ومتابعة تلك المرحلة لا تختلف كثيراً بمجرياتها اليومية عن مرحلة التقاء السلطة السياسية اليوم على حماية سارقي أموال الناس تحت ذرائع مختلفة. لكن الاختلاف الوحيد هو أن تلك المرحلة شهدت ارتفاع أصوات سياسية معارضة بقيت تحذر من مشروع سوليدير وغيره من المشاريع المالية والاقتصادية التي قامت عليها مرحلة التسعينيات، لما قد تتركه من آثار كارثية على مستقبل لبنان الاقتصادي. لكن ارتكابات سلامة الحالية تحظى يومياً بتغطية «المعارضة» و«الموالاة»، اللتين نادراً ما التقتا على أمر ما، كاتفاقهما على حماية حاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف سليم صفير وتبرير إمعانهما في سرقة اللبنانيين. كلام غلاة المعارضين لحزب الله وللعهد في حماية سلامة وصفير يشبه تماماً كلام حماة العهد له، والفريقان غزلا مع سلامة لقاءات سرية برية وبحرية خلال الفراغ الرئاسي، من أجل إتمام صفقات تقارب كل السيناريوات المحتملة للانتخابات الرئاسية. وبقدر ما يذهب سلامة بعيداً في ابتداع أساليب نهب جديدة، يسعى جميع الذين يحمونه الى تغطية ارتكاباته، الى أن وصل تبرير مسؤول مقرّب من العهد الى حدّ القول إن إبقاء العهد «سلامة في موقعه كان من أجل تحميله مسؤولية ما يجري ومحاكمته لاحقاً عليها!».
سيُطلب من العسكريين والأمنيين حماية السياسيين والمصرفيين المسؤولين عن تدهور معيشتهم
والاختلاف الثاني عن مرحلة التسعينيات هو أن أصوات المعارضة الشعبية لأداء الترويكا وارتكاباتها، ولا سيما في ملف سوليدير، ظلت قائمة رغم هوية السلطة القائمة بحكم الوجود السوري. من هنا، يبدو تخلي الطبقة الشعبية عن المطالبة بمدخراتها وحقوقها فاقعاً، كما تعاملها مع ارتفاع سعر الدولار الى الحد الذي لم تعد معه مدخراتهم أو رواتبهم ذات قيمة، ولا يزال دون المستوى المطلوب. في الوقت عينه، يعمّم وزراء ومسؤولون محسوبون على العهد نظريات مالية واقتصادية في مجالسهم الخاصة والعامة، عن الأمن الغذائي، ودعوة مناصريهم الى التحسّب للمستقبل وتخزين مواد غذائية أساسية، خشية ارتفاع تصاعدي في سعر صرف الدولار وانهيار لليرة اللبنانية، إضافة الى تبشيرهم المتكرر والعلني بأن الوضع الاقتصادي والمالي «لن يستقر من دون اللجوء الى صندوق النقد الدولي والقبول بشروطه».
يشير أحد الاقتصاديين الى أن ردّ فعل اللبنانيين المتأخر على إفلاسهم، هو أنهم لا يزالون تحت وطأة المهل التلقائية التي يتعاملون فيها مع أي تطور يطال سلوكياتهم اليومية، فيعطون المصارف مهلاً إضافية لتحصيل أموالهم، على افتراض أن الوقت لا يزال سانحاً لتحصيلها، من دون الأخذ في الاعتبار التبدل السريع في نوعية تعاميم مصرف لبنان. وفيما كان يفترض بتفشي وباء كورونا أن يضاعف نقمة العائلات بسبب تراجع مستوى الحياة اليومية، شكّل العزل المنزلي المرجّح للاستمرار حتى ما بعد انتهاء شهر رمضان، حماية لها من اكتشاف حقيقي لغلاء الاسعار. لكن بمجرد عودة المدارس واستئناف الاعمال ودورة الحياة اليومية المتوقفة، فإن اللبنانيين سيجدون انفسهم أمام محفظة خالية إزاء المصاريف الشهرية. وهذا يفترض أن يمثّل استفزازاً يحدد مستوى ردّ فعلهم. صحيح أن موظفي القطاع العام، مدنيين وعسكريين، لم يفقدوا وظائفهم، لكن انهيار الليرة أفقد رواتبهم، ومعظمهم من ذوي الرتب الدنيا، أكثر من نصف قيمتها، وهم غير قادرين على تسديد قروضهم، وكثير منهم يقدم فواتير طبية لا تتعدى قيمتها عشرة آلاف ليرة، ومئات العسكريين باتوا ينتظرون وجبات الغذاء من الثكن، بدلاً من شراء وجباتهم. وهؤلاء المستنفرون على الارض منذ تشرين الاول الفائت، باتوا على تماس يومي مع تحديات حياتية ومعيشية وأمنية سترتدّ عاجلاً أو آجلاً على الوضع الأمني العام، في حين أن المطلوب منهم سيكون قمع المتظاهرين، والأهم تأمين حماية السياسيين والمصرفيين المسؤولين عن تدهور معيشتهم.
(الاخبار)