نحو مواجهة الأزمة الاقتصاديّة بخصخصة الإدارة وتحسين الإيرادات وجبايتها: د. عصام نعمان
يعاني لبنان آثاراً موجعة لانهيار مالي واقتصادي سابق لاندلاع وباء كورونا ومتفاقم بعده. حكومة حسان دياب تتدارس مشروع برنامج إصلاح مالي إنقاذي لتعويض الخسائر وتسريع تعافي الاقتصاد. في السياق نفسه، تواجه البلاد نتيجةَ الإغلاق العام لمرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية انخفاضاً كبيراً في الإنتاج والاستثمار والعمالة والدخل، ومعارضة سياسية متزايدة لبعض إجراءات برنامج الإصلاح المالي الذي تعتزم الحكومة اعتماده لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة.
يتضح من مسودّة البرنامج المذكور انّ الإجراءات المُراد تنفيذها لتعويض خسائر تربو على أكثر من 83 مليار دولار هي ناجمة عن انخفاض قيمة الأصول لدى مصرف لبنان المركزي، وانخفاض قيمة القروض المصرفية اللازمة لإعادة هيكلة الدين العام.
لتغطية هذه الخسائر، لَحَظ برنامج الإصلاح المالي وضع استراتيجية شاملة على مراحل لإعادة هيكلة الميزانيات العمومية لمصرف لبنان المركزي وسائر المصارف عبر إشراك المساهمين الحاليين في المصارف بشطب رؤوس أموالها المقدّرة قيمتها بـِ 20,8 مليار دولار، أيّ الطلب من المساهمين إعادة رسملتها بالكامل واعتبار رساميلها الحالية معدومة، على أن تتمّ تغطية ما تبقى من الخسائر وقيمتها 62,4 مليار دولار بـِ «مساهمة استثنائية من كبار المودعين» وذلك باعتماد ما يُسمّى آلية «قصّ الودائع» hair cut.
لتعويض خسائر المودعين، لَحَظ برنامج الإصلاح المالي إنشاء صندوق خاص باسم «صندوق المعافاة» يجري تمويله بالأموال المتحصّلة من برنامجٍ لرصد واستعادة أصول مكتسبة بشكل غير مشروع، أيّ الأموال المهّربة إلى الخارج (قيل إنها تعود لأصحاب المصارف وكبار المودعين وبعض أركان المنظومة الحاكمة) وانّ الغاية المتوخاة من وراء اعتماد هذه الإجراءات تلبية متطلبات صندوق النقد الدولي للحصول على دعمه التقني والمالي.
قوبل ما تسرّب من إجراءات برنامج الإصلاح المالي بمعارضة لافتة من فريقين: الأول يضمّ أصحاب المصارف وكبار المودعين وأنصار مدرسة الاقتصاد الحر المعارضين للتخطيط وتدخل الدولة في الشأن الاقتصادي؛ الثاني يضمّ المعارضين للتعاون مع صندوق النقد الدولي والمشكّكين بخططه المرتبطة غالباً بسياسة الولايات المتحدة المتواطئة مع «إسرائيل» والمستهدفة حزب الله بما هو عماد المقاومة ضدّها.
الى ذلك، ثمة فريق ثالث يضمّ سياسيين وخبراء اقتصاديين وطنيين مستقلين ينظرون الى القضية موضوع البحث بعين واقعية وعلمية. هم يعتقدون انّ وباء كورونا لم ينحسر بعد، بل هو متواصل وتداعياته الاقتصادية والسياسية والأمنية متواصلة ومتغيّرة ما يجعل عملية التخطيط للمدى البعيد أمراً بالغ الصعوبة. لذا يقترح هؤلاء الاكتفاء في هذه المرحلة المضطربة بالتخطيط للمدى القصير والمتوسط، واعتماد ما هو متاح من قوانين وآليات ووسائل مقبولة وغير مثيرة للجدل أو المنازعة وذلك من خلال مقاربة علمية ومتطوّرة تتوخّى مواجهة الأولويات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً المتعلقة بحقّ الشعب بالخبز والعمل وتأمين السلع والخدمات الضروريّة كالأمن والقمح والأدوية والوقود والتواصل الاجتماعي.
لمواجهة هذه الأولويات يقتضي بطبيعة الحال توفير الموارد المالية اللازمة. في هذا المجال، جرت مناقشة مستفيضة حول مصادر الموارد المالية المرتجاة وكيفية الإفادة منها. فأصحاب المصارف وأنصارهم (حماتهم؟) يعارضون آلية قصّ الودائع hair cut ويعتبرونها غير قانونية وغير أخلاقية. كما أنّ جماعة من القياديّين الوطنيين والسياسيين المتخوّفين من تدخلات الولايات المتحدة ومن سوء تجارب صندوق النقد الدولي حذروا من «إصلاحاته» القائمة غالباً على فرض المزيد من الضرائب، وتقليص الاعتمادات المرصودة للضمان الصحي والاجتماعي، واعتبار الخصخصة علاجاً دائماً لتوفير الفرص للشركات الاستثماريّة، الأميركية والأوروبية، الحريصة على الاستئثار والاستغلال والسطو على الموارد الوطنيّة.
من حق المودعين في المصارف عموماً الاعتراض على آلية قصّ الودائع، لأنها تحمّلهم وزر الخسائر الناجمة عن سوء إدارة مرافق الدولة ومؤسّساتها واستشراء الفساد فيها بعلم ومشاركة أركان المنظومة الحاكمة. لكن من حق البلاد والشعب إلزام المساهمين المشاركة في عمليّة إنهاض الاقتصاد الوطني، لأنّ من شأنها حماية مصالحهم من الانهيار والتبدّد. لذا من الضروري اعتماد آلية متوازنة لقصّ ودائع كبار المودعين والشركات الكبرى إنما بنسب مئوية معتدلة ومتدرّجة وعلى مدى زمني طويل.
أما بشأن «الإصلاحات» التي ينصح بها صندوق النقد الدولي، ايّ المزيد من الضرائب والخصخصة، فيقتضي التشديد على أمر بالغ الأهمية هو أنّ التعاون مع الصندوق المذكور يتمّ وفق عقد تتوافق عليه الدولة المعنية مع الصندوق. لذلك، تستطيع الدولة ان ترفض «الإصلاحات» والإجراءات التي تراها مضرّة أو غير مفيدة. فوق ذلك، تستطيع حكومة حسان دياب اعتماد ضرائب لا تؤذي الطبقة الشعبية وذوي الدخل المحدود كضرائب على الكماليات، وضريبة تصاعدية على الشركات وأصحاب المداخيل والثروات الكبيرة، وزيادة الرسوم الجمركية على المصنوعات الأجنبية، وفرض رسوم عالية على مستثمري الأملاك البحرية العامة.
أما بشأن الخصخصة فمن الضروري الإشارة إلى أنّ هناك نماذج متعددة، منها: خصخصة الملكية، خصخصة الإدارة، وإشراك القطاع الخاص والجمهور في كلٍّ من النموذجين آنفي الذكر.
الجدير بالذكر أنّ الدولة اللبنانيّة تعتمد حالياً نموذج خصخصة الإدارة. ذلك أن شركتي الهاتف الخليوي، «تاتش» و «ألفا»، تمتلكهما الدولة وتديرهما لحسابها شركتا «زين» و»أوراسكوم» بموجب عقد انتهت مدته في 1/1/2020. وعليه، بإمكان الحكومة اعتماد صيغة أفضل وأكثر دخلاً للدولة باعتماد أحكام قانون الخصخصة الذي وضعته حكومة الرئيس سليم الحص (وكنتُ فيها وزيراً) وأقرّه مجلس النواب (قانون رقم 228 تاريخ 31/5/2000).
تستطيع الحكومة، إذاً، بموجب صيغة جديدة لخصخصة الإدارة والتشغيل، إشراك الجمهور إلى جانب الشركات المتخصصة وذلك بشروط مجزية للدولة بعدما أصبحت الإيرادات التي يدرّها قطاع الاتصالات وفيرة ولا تقلّ عن ملياري دولار سنوياً، على أن لا تقلّ حصة الدولة من دخل المؤسسة المخصخصة إدارتها عن 60 في المئة.
إلى ذلك، تستطيع الحكومة أيضاً اعتماد أحكام قانون الخصخصة لإنهاض مؤسسة كهرباء لبنان وذلك باعتماد صيغة تتيح إشراك الجمهور إلى جانب الشركات المتخصصة، على أن يكون التشغيل دائماً تحت رقابة هيئة حكومية مقتدرة، صارمة، ونزيهة.
هكذا، باعتماد نموذج خصخصة الإدارة، وتحسين الإيرادات وجبايتها بآليات وضوابط فاعلة، تستطيع الدولة مواجهة متطلبات الأولويات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً في هذه الآونة.
(البناء)