تأميم المصارف… آخر الدواء… رأسماليّ لا اشتراكيّ: ناصر قنديل
– يظنّ الكثيرون، بسبب الدعاية المشوّهة وقلة المتابعة، أن إجراء التأميم هو خطوة اشتراكية، لا يمكن حدوثها في النظام الرأسمالي القائم على الاقتصاد الحر ومعايير اقتصاد السوق، لأنه لا يعلم أن إجراءات التأميم الأقرب لزماننا، حدثت في دول الرأسمالية العريقة، أميركا وبريطانيا وفرنسا، قبل اثنتي عشر سنة فقط، عندما طال المصارف في هذه الدول التأميم الجزئي أو الكلي، جواباً على التعسر العام الذي وقع فيه الاقتصاد العالمي، والأميركي والأوروبي خصوصاً عام 2008، ذلك أن التأميم لا يعني المصادرة، ولا وضع اليد على الملكية الخاصة، التي لا تمثل في حال المصارف إلا ملكية الرأسمال من قبل أصحاب المصارف؛ بينما ما تملكه المصارف، فهو ملك تضامني للمودعين، سواء كان بصيغة موجودات عقارية، أو سندات دين ورهونات. وعندما تقع المصارف في سوء الإدارة، فتعجز عن تلبية حقوق مودعيها، لأنها لم تقم بواجباتها المهنية، بسبب طغيان الطمع والجشع، فسمحت بتراكم استثماراتها في الديون غير المؤكدة التحصيل، ما تسبب بعجزها عن الإيفاء بحاجات المودعين، تتدخل الدولة، فتعزل الإدارة، وتمنع الرواتب المتضخمة وموازنات الإنفاق المترفة للمدراء، وتتخذ الإجراءات التي تضمن إعادة رسملة وهيكلة المصارف، وتمنع وضع اليد على الرهونات العقارية، وهو ما تلجأ إليه المصارف عادة لمحاولة الترسمل السريع وتفادي الأزمة، رغم تهديده للآلاف والملايين من الأسر بالتشرد وخسارة منازلها، وتحول دون تحول الإدارة المصرفية إلى وحش يتغول بالوكالة عن الاقتصاد الحر وباسمه ليبتلع المجتمع ويتسبب بالإفقار والتجويع والتشرد.
– ما يجري في لبنان مشابه تماماً، لما جرى في أوروبا وأميركا عام 2008، مع اختلاف في وجهة المخاطرة في محفظة الديون التي حملتها المصارف وتسببت بتعريض حقوق ومصالح المودعين للخطر، فبدلا من سوق الرهن العقاري التضخمية لجأت مصارف لبنان للاستثمار في سندات دين الدولة التضخمية، والسبب واحد وهو الجشع، والنتيجة واحدة، هي الانهيار، والتفسير واحد هو انعدام المسؤولية المهنية، والإخلال بالأمانة التي توجبها أموال الناس وحسن رعايتها، ولا يغيّر من ذلك أبداً ما يقوله أصحاب المصارف، والسياسيون الذين يتبعون لهم، والإعلاميون الذين يسوقون لهم، عن مسؤولية الطبقة السياسية، فالشراكة في الجريمة تطال الفريقين بالتكافل والتضامن، ولذلك يهب أحدهما لنجدة الآخر ويتحمس أحدهما للدفاع عن الآخر. وعملية تهريب الأموال إلى الخارج يقوم بها أحدهما لحساب الآخر، بينما ينتظر من هذا الآخر الحماية، وتدفيع الناس ثمن إعادة رسملة المصارف، عبر فرض وصفات صندوق النقد الدولي، التي تفرض رفع سعر صفيحة البنزين إلى خمسين ألف ليرة، والضريبة على القيمة المضافة إلى 20%، وصرف 40% من موظفي الدولة، وسواها من إجراءات التجويع، لتؤمن الدولة مالاً تسدد به ديونها للمصارف، فيتمكنون من العودة للوفاء بالتزاماتهم للمودعين.
– في الحالة الأميركية والأوروبية تم التأميم الكلي والجزئي عبر شراء قسري فرضته قوانين لنسب مقررة من أسهم المصارف تتيح السيطرة على قرارها، مقابل ضخ أموال فيها، وفرض قيود على طريقة إدارتها من موقع القانون، وما ضمنه التأميم بموجب القانون. وفي لبنان طالما أن الدولة هي صاحبة الديون التي تطلبها المصارف، فالتأميم يقوم على ركيزتين مختلفتين عن ضخ الأموال، تستلزمان قانوناً، الأولى هي قيام الدولة عبر هيئة مصرفية مستقلة تقوم بتشكيلها بموجب القانون، بتحديد أسعار شراء أسهم مقررة في البنوك الكبرى، وتحديد أسعار شراء هذه البنوك للأصغر منها لدمجها بها، والثانية هي، بدلاً من ضخ الأموال تتم رسملة البنوك المشتراة حصصها الرئيسية من الدولة، عبر احتساب نسبة ملكية لأسهم في شركات تستثمر ملكيات الدولة ذات الطبيعة الإنتاجية لمدد تتراوح بين 25 و49 سنة، مثل حقوق استثمار المطار والمرفأ وشركات الاتصالات والكازينو والميدل إيست والأملاك البحرية والنهرية والكهرباء، كمساهمة للدولة في رأسمال هذه المصارف، واحتساب نسبة من ودائع كبار المودعين عند سقف تقرّره الهيئة، بأسهم من ملكية البنوك ومبادلتهم لنسب أخرى من ودائعهم بموجودات البنوك العقارية، بحيث تتقارب قيمة الرأسمال الجديد من نسبة جيدة معيارياً من الودائع، وتتم عملية شراء الديون المترتبة على الدولة من قبل الدولة نفسها بعد اعتبارها ديوناً هالكة بأسعار تقررها الهيئة. وبعدما باتت الدولة صاحب الأسهم الرئيسية للبنوك، يحفظ لأصحاب رأسمالها ما لهم من أموال تعادل أسهماً بنسب جديدة غير مقررة في البنوك، وهذا هو سقف حقوقهم في الاقتصاد الحر، كما تقول تجربة الدول المثالية في تطبيقه.
– بعد هذا التأميم بسنتين أو ثلاث سنوات، تقوم الدولة ببيع أسهمها في البنوك التي تقلص عددها وتغيرت إدارتها، والتي تبقى مالكة لأسهم في شركات الدولة الاستثمارية، بينما ملكية الأصول في ثروات الدولة السيادية باقية للدولة، ويكون الدين على الدولة أقل من نصفه اليوم، والودائع أقل من نصفها، مقابل ترسمل حقيقي في البنوك وضمان حقيقي للودائع.