اقتراح استبدال الودائع بعقارات الدولة: إنقاذ المصارف بالمال العام: إيلي الفرزلي
حمل الوزير السابق محمد المشنوق إلى رئيس الحكومة اقتراحاً يقضي باستبدال الـ hair cut ببيع المودعين أراضي عامة بعد فرزها. بحسب المشنوق، فإن عائدات هذه العملية قد تصل إلى 50 مليار دولار توضع في صندوق سيادي لإدارة أملاك الدولة. المشكلة الأساس للاقتراح أنه قد يُستغل لإعفاء أصحاب المصارف من تحمّل مسؤولية الإفلاس. لكن مع ذلك، يبدو أن الأفكار الحكومية ليست بعيدة عنه
في العاشر من آذار الماضي، التقى الرئيس حسان دياب الوزير السابق محمد المشنوق «وجرى عرض للأوضاع العامة». لكن مع الوقت، وبحسب أكثر من مصدر، تبيّن أن اللقاء تخلله تقديم المشنوق اقتراحاً مكتوباً وتفصيلياً، يشكّل «حلاً لأزمة المخاوف على أموال المودعين في المصارف»، وكذلك يعالج مشكلة المخالفات المرتكبة بحق الأملاك العامة.
الحل المركّب المقترح، تعود جذوره إلى عام 2015. في ذلك الحين، وعندما كان المشنوق وزيراً للبيئة، شارك في عضوية لجنة وزارية شملت مهمتها إعداد دراسة عن واقع الأراضي في الدولة تمهيداً لإعادة ترتيبها وإدارتها. لم تكن تلك اللجنة الأولى من نوعها. معظم الحكومات قبلها وبعدها، شكلت لجاناً للمهمة نفسها، من دون الوصول إلى نتيجة. اللجنة المذكورة لم تنجز عملها أيضاً، لكن اجتماعاتها وما عُرض خلالها من معلومات، شكّل قاعدة انطلاق لإمكانية حصر هذه الأراضي، وخاصة بعد جمع المعلومات التي تملكها الجهات المعنية (وزارة المال، وزارة الأشغال، الجيش، ومجلس الإنماء والإعمار…).
بالنتيجة، وبحسب مضمون الاقتراح، يتبين أن أملاك الدولة على أنواعها تشمل 60 في المئة من مساحة لبنان. تلك المساحة تشمل أيضاً التعديات التي تطاول الأملاك البحرية والنهرية والبلدية. 1000 كلم مربع من المساحة الإجمالية لهذه الأملاك هي التي يشملها الاقتراح. تُفرز تلك الأراضي إلى نحو مليون قطعة بمساحات مختلفة (500، 1000، 1500، و2000 متر مربع)، على أن يتم اختيارها «في المواقع التي يمكن العيش فيها، أي في ارتفاعات لا تزيد على 2400 متر، مع الحرص على تفادي الأحراج والمحميات والمناطق الأثرية والموارد المائية والأنهار».
بيت القصيد في الاقتراح أنه بعد إجراء هذا العمل من قبل مجلس متخصص، يُنشأ للغاية ويسمى المجلس الوطني لإدارة أملاك الدولة، تعرض الدولة على أصحاب الودائع في المصارف فرصة شراء قطعة أرض أو أكثر من المساحات المعروضة ضمن تسهيلات في الدفع ووفق شروط تهدف إلى إنعاش هذه المناطق وتأمين النهضة فيها من خلال مشاريع إنتاجية وفق تصنيف المناطق إن كانت زراعية أو صناعية أو سكنية أو سياحية.
مجلس وطني وصندوق سيادي لاستثمار عائدات الأملاك العامة
بحسب الدراسة المُعدّة لهذا الاقتراح، فإن الأموال التي تنتج من عملية البيع، والتي تُقدّر بـ 50 مليار دولار بالحد الأقصى و25 مليار دولار في الحد الأدنى، لن تذهب إلى مالية الدولة، بل ستوضع في صندوق سيادي يديره المجلس.
يعتبر المشنوق أن للاقتراح إيجابيات عديدة، أبرزها عدم ابتلاع المصارف ودائع الناس، وضبط أملاك الدولة ووضع حد للمخالفات والاعتداءات، وإطلاق عملية النهوض إنمائياً في المناطق من خلال التصنيف الجديد وإقامة قرى نموذجية ومنشآت مفرزة تؤمن آلاف الوظائف.
مشكلة الاقتراح، كما يراها مطلعون عليه، تتعلق في سعيه إلى خلط أزمتين للخروج منهما بحل مشترك. أزمة الممتلكات العامة هي أزمة متجذرة وتحتاج إلى حل حاسم لا شك، لكن لماذا يكون حل الأزمة الناجمة عن سوء إدارة القطاع المصرفي عبر بيع أراضي الدولة وتقليص المساحات العامة؟ والأهم، لماذا تقوم الدولة بإنقاذ أصحاب المصارف من أزمة هم سببها، ويرفضون حتى اليوم المبادرة إلى حلها.
بحسب دراسة أعدّها رئيس قسم الاقتصاد في إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدكتور بلال شحيطة، فإن «الأراضي هي أهم الموارد التي تملكها الدولة». كما تؤكد الدراسة المعدّة لمصلحة المركز الوطني للبحوث العلمية أن تلك الأراضي، والتي استبيح أغلبها، يمكن أن تساهم في تنمية البلد على مختلف الصعد.
ذلك أمر مسلّم به بالنسبة إلى كل العاملين في الشأن العام، لكن مفتاحه هو إنهاء استباحة الأملاك العامة، ثم إعداد خطط استثمارية مختلفة لهذه الأراضي. مع ذلك، فإن العين الرسمية لم تر سوى بيع الأراضي، أسهل الخيارات وأخطرها. سبق لحكومة الوحدة الوطنية في اجتماعها الأخير (23 تشرين الأول 2019) أن تطرقت إلى الأمر في الورقة «الإصلاحية» التي أقرتها. يشير البند الخامس من الورقة، وهو تحت عنوان «تفعيل إدارة ومردود عقارات الدولة» إلى: تكليف السيد وزير المال إجراء جردة بكافة العقارات المملوكة من الدولة وإجراء تقييم لها وتقديم اقتراح للاستفادة منها خلال مهلة ثلاثة أشهر.
اللافت أنه بعد نحو أسبوع من زيارة المشنوق للسرايا الحكومية، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلة مع وزير المال غازي وزني أعلن فيها أن من بين الإصلاحات المطلوبة، لتجنيب الودائع الخطر، هو «إنشاء صندوق من أصول الدولة يتعين على المودعين شراؤها».
1000 كلم مربع مساحة الأراضي المطروحة للبيع
قد يكون هذا الصندوق أشمل لأنه يتعلق بكل أصول الدولة، أي بما فيها الكهرباء والاتصالات وربما الموانئ…، إلا أنه يعبّر عن توجه حكومي تراكمي يهدف إلى استغلال تلك الثروة، وهذه المرة لإنقاذ القطاع المصرفي والدائنين، بذريعة حماية المودعين من خسارة جزء من ودائعهم.
بالنسبة إلى المشنوق، ليس الحل مبنياً على تخيير المودعين بين شراء الأراضي وخسارة ودائعهم. لكن لا بد من الإجابة عن سؤال: هل من ضمانات على أموال المودعين، ولا سيما الصغار منهم، تكفل لهم إعادة دفع أموالهم في حال إفلاس المصارف؟ وهو يؤكد أنه لا يبرئ المصارف في اقتراحه، لكنه يتعامل مع الواقع كما هو. يدرك أن ما هرّبه كبار المودعين، والذي وصلت قيمته إلى ٢٧ مليار دولار كان يمكن أن يسدد حسابات ما يقارب 2.3 مليون حساب، لكنه يعتبر أن الكشف عن المتورطين يجب أن يتوازى مع حماية المودعين. ولذلك، فإن خيار إعطاء المودعين الحوافز لاستثمار أموالهم لا يجب أن يتعارض مع أي إجراء آخر. أولويته عدم جواز قص الودائع، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، انطلاقاً من أنها حقوق لأصحابها لا يجوز المسّ بها. لا يميز المشنوق بين الـ 95 في المئة من المودعين الذين يملك كل منهم أقل من 200 ألف دولار في المصارف وبين الـ 0.8 في المئة من المودعين، مالكي الثروة العقارية والمتحكمين بالسلطة، الذين يملكون 52 في المئة من الودائع (ما يزيد على 80 مليار دولار). بالنسبة إليه، كل المودعين يحق لهم الحرص على ودائعهم، ويفترض بالدولة حمايتها. وهو يضع اقتراحه في سياق زيادة «ثقة المواطنين بالحكومة وأركان الدولة بعد شعورهم بأن ودائعهم لم تهدر ولم تبتلعها المصارف أو قرارات تسديد الديون الدولية والسندات».
في المقابل، ومع إدراك مصدر مالي أن القطاع المصرفي يسعى إلى تحميل المودعين نتائج سياساته وسياسات الحكومات المتعاقبة التي أوصلت البلد إلى الهاوية، فإنه يوضح أن أي اقتراح يبعد المسؤولية عن المصارف يجب ألا يمر. الأولوية يجب أن تكون لإدارة عملية الإفلاس. فإذا كانت المصارف عاجزة عن تأمين التزاماتها تجاه المودعين، فعلى الدولة أن تدقق في حساباتها وتقيّم موجوداتها، كما يجري مع أي حالة إفلاس أو تخلّف عن السداد. بعدها يفترض أن تجري دراسة مقارنة بين حجم القطاع وحجم التزاماته، تمهيداً لإعادة هيكلته. وذلك يفترض أن يتم عبر تحرير الودائع الصغيرة، وإلزام كبار المودعين على الاكتتاب في رأس مال المصارف المتبقية بعد إعادة رسملتها، لا اقتراح بيع الأملاك العامة لإنقاذ أصحاب المصارف وكبار المودعين الذين راكموا الثروات على حساب المال العام.
حزب الخصخصة
بعيداً عن تفاصيل فكرة الوزير السابق محمد المشنوق، فإن سياقها العام ليس غريباً. مع كل حدث يخرج من يعلن أن الخصخصة هي الحل. كل أشكال الخصخصة طرحت تحت عناوين مختلفة. عين رأس المال لا تغمض عن قطاع الاتصالات تحديداً كونه الأكثر تحقيقاً للأرباح، لكن الشهية مفتوحة على أي ملك عام. الكهرباء والمطار والمرافئ والنفايات والطرقات والأراضي… كلها تجد من يسوّق لبيعها. وهذا توجه ليس حكراً على جهة سياسية واحدة. عندما يصل الأمر إلى بيع الدولة، يكون الجامع صاحب رأس المال الذي يسعى إلى شرائها بأبخس الأثمان. الحريرية يحق لها أن تطالب بحق السبق، لكن بعدها كثيرون مشوا على الطريقة نفسها. القوات وبعض التيار الوطني الحر وبعض حركة أمل منهم. الحجج لا تنتهي. تارة لأن الدولة فاشلة في الإدارة، ولإطفاء الدين العام أو لإنقاذ الاقتصاد، وطوراً التزاماً بالإملاءات الدولية، واليوم لإنقاذ المودعين. في الحكومة الماضية، لم يترك غسان حاصباني مناسبة إلا أعلن فيها أن الخصخصة هي الحل الوحيد لإنقاذ البلد، وفي الحكومة التي سبقت كان رائد خوري إلى جانبه، واليوم ينضم غازي وزني إلى الجوقة. لكن الوضع الراهن أكثر إغراءً. الانهيار وقع وخيار بيع الدولة نضج، ولم يبق إلا القطاف. هذا ما يأمله من يريد تحرير من غامر بمصير البلد من مسؤوليته.
(الاخبار)