بقلم ناصر قنديل

الحكومة ومكوّناتها: بين الاستقلال والارتباك: ناصر قنديل

شكّل تلويح رئيس المجلس النيابي بتعليق المشاركة بالحكومة، من بوابة قضية عودة المغتربين، مدخلاً للتساؤلات التي يرغب بسماع أجوبة إيجابية عليها معارضو الحكومة، وخصوم مكوّناتها، بل معارضو الحكومة بسبب خصومتهم مع مكوّناتها، وهم يسألون، هل دنت ساعة إسقاط الحكومة على أيدي الذين شكلوها. ويسارعون للجواب بالإيجاب على السؤال، وهم فرحون بمواقف خصومهم، كأن الحكومة صارت هي خصمهم الفعلي، ولم يعد مصدر خصومتهم لها هو علاقتها بمكوناتها وداعميها، بل كأنهم بدوا مستعدين لمد يد التحالف لخصومهم تحت عنوان التعاون لإسقاط الحكومة، وجاء تلاقي مواقف الرئيس بري والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ورئيس التيار الوطني الحر الوزير السابق جبران باسيل، حول انتقاد الموقف الحكومي المتباطئ في البتّ بعودة المغتربين، ونداؤهم لها لاعتبار الأمر مهمة ملحة وراهنة، عدا كونها حقاً وطنياً ودستورياً للراغبين بالعودة، وواجباً وطنياً ودستورياً وأخلاقياً على الحكومة، ليطرح السؤال ذاته بقوة أكبر، حول مصير العلاقة بين الحكومة ومكوناتها، ويوحي بالكثير حول مستقبل الحكومة.

 

كما كل مرة، يقع الكثيرون في فخ التسرّع بتحليل وتفسير موقف الرئيس بري، خصوصاً من بعض حلفائه الذين يعتبرون أن عنوان معركتهم هو مع ما يسمونه بالحريرية السياسية، فيطرحون الشكوك حول رغبته بعدم القطع معها، ويروّجون لسعيه لفتح أبواب العودة أمامها، ويشترك مع هؤلاء الذين سبقوا الرئيس بري بالتشارك مع الحريرية في تفاهمات لم يكن جزءاً منها، بل كان من معارضيها، لكن بعض هؤلاء الحلفاء ينطلقون اليوم من معادلة تحكم تفكيرهم، عنوانها أن الحكومة الجديدة لا تناسب الذين اعتادوا على حكومات المحاصصة. ومن الطبيعي برأيهم أن يلتقي هؤلاء ضمناً ولو مختلفين، على الامتعاض من هذا الوضع الجديد، ويجمعهم الحنين للعودة لصيغ حكومات ثلاثين عاماً مضت. ولذلك يتحدث هؤلاء عن حلف تحت الطاولة بين كلام الرئيس بري وكلام الوزير السابق سليمان فرنجية، وكلام النائب السابق وليد جنبلاط، ولا يرون في قضية المغتربين إلا عنواناً عابراً لقضية مستمرة، ستكبر أكثر.

لو سلمنا بصحة الفرضية، فعلينا أن نطرح سؤالين، الأول هو كيف نفسر انضمام المكونات الكبرى للحكومة إلى موقف موحّد من قضية المغتربين، أي الرئيس بري والسيد نصرالله، والوزير باسيل، وإذا كان المشترك بين هذه القوى الداعمة للحكومة هو السعي للتخلص منها، فهذا لا يستدعي الكثير وهي لا تمتلك تغطية نيابية تحميها وتحفظ استمرارها بدونهم. وهذا يعني أن اللقاء على الموقف لا صلة له بإعادة النظر في مستقبل الحكومة. ويعني أيضاً أن لا صلة له بجمع الخصوم، فلا منطق يقول بتفاهم الوزيرين باسيل وفرنجية على نظرة موحّدة نحو الوضع الحكومي، أو بتفاهم حزب الله والنائب السابق وليد جنبلاط، والسؤال في حال العكس يصير، ما هي هذه القوة الجبارة التي تبقي الحكومة إذا كان كل هذا الجمع لا يريدها؟ أما السؤال الثاني فهو عن صدقية الفرضية المطروحة في التداول لإسقاط الحكومة ورئيسها، في ظل التوقيت الراهن، حيث أزمة كورونا في الصدارة، ومن خلفها أزمة الديون والتوقف عن السداد تجرجر ذيولها، ومن سيحمل عبء تشكيل حكومة جديدة، وبأي مقاربات، وخلال أي مهلة، وهل يوجد فعلاً بديل متاح واقعياً للتفكير بتغيير الحكومة، وكل الوقائع تشير بالعكس. وللذين يرغبون بالتحليل البوليسي، ويرون ظلال الرئيس سعد الحريري ظاهرة، يصير السؤال هل فعلاً هناك ما يمكن اعتباره قابلاً للتصديق في تفاهم يجمع حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر مع الرئيس الحريري؟

كل شيء يقول إن ما يجري بين الحكومة ومكوناتها يرتبط بقضايا جدية وحقيقية، لكنها قطعاً ليست القضايا التي ينطلق البحث فيها لينتهي بقرار إسقاط الحكومة ورئيسها، وليست القضايا التي يجري تحريكها بصورة مفتعلة لخلق مناخ ينتهي بإسقاط الحكومة، بل العكس، هي قضايا كبرى وقائمة بذاتها على خلفية التمسك ببقاء الحكومة، والقناعة بأنها حكومة الضرورة التي لا بديل عنها، والتأقلم مع قواعد التشارك في إدارتها، وهي بلا شك قواعد جديدة، تتشكل بصورة رئيسية من نمط عمل وتفكير رئيسها، وأسلوبه في إدارة العمل الحكومي، والمعادلات التي تحكم تفكيره وقراراته، وهي غير معتادة، ولا تشبه القواعد التي تتحكم بالسياسيين، على اختلافهم وتعدد تحالفاتهم وخصوماتهم. فقد نجح الرئيس حسان دياب في مرحلة تشكيل الحكومة، مستقوياً بمزاج شعبي سلبي تجاه القوى السياسية التي كانت في الحكم، خصوصاً من شارك منها بمواقع صناعة القرار لسنوات طويلة ولدت في رحمها ظاهرتا الفساد وتغوّل المصارف، لينتزع حكومة تمثلت فيها القوى الداعمة لها بوزراء أقرب لمفهوم الاستقلال عنها، سواء كان هذا مردود هذا الاستقلال سلبياً ام إيجابياً، فهو ظاهر وغير قابل للإنكار، وتثبته وقائع العلاقة بين حركة أمل ووزير المالية غازي وزني في تجربة قرار عدم السداد للديون وفي مشروع الكابيتال كونترول، ومثلها علاقة وزير الخارجية ناصيف حتي بالتيار الوطني الحر في قضية عودة المغتربين، والتجاذب حول القضية تفجر على خلفية تصريح وزير الخارجية بأن لا شيء في قضيتهم قبل موعد 12 نيسان، ولاحقاً وبعد تشكيل الحكومة ونيلها الثقة وبدء ممارسة مهامها بدا أن ثمة منهجاً خاصاً برئيس الحكومة يعكس موقعه وتكوينه المغايرين، وقد ترجم رئيس الحكومة منهجه في العمل كممثل للتكنوقراط، وليس كممثل للغالبية النيابية التي جاءت به رئيساً للحكومة ومنحت الثقة لحكومته.

يدرك الرئيس حسان دياب أن الانتفاضة التي هزت لبنان قبل شهور، كانت تعبيراً عن توق إصلاحيّ، لا ينسجم مع مخاطر الفوضى والعبثيّة التي أظهرت كثيراً من المجموعات القائدة للحراك الشعبي، ميلاً نحو المغامرة بسلوك طرق مؤدية إليها، ما أدى إلى تراجع زخم المشاركة الشعبية في الحراك قبل حضور أزمة كورونا، ويدرك أن هذا المزاج الشعبي لا يريد أيضاً رؤية مخاطر إجهاض الانتفاضة كرسالة احتجاج على نمط الأداء السابق وكتعبير عن دعوة عميقة للإصلاح، ويسعى لأن يكون المعبّر عن هذين التطلعين الشعبيين مستقوياً بهما، في تقديم أداء حكومي يحول دون الفوضى ولا يشكل امتداداً لأساليب العمل السابقة، ويتصرّف على قاعدة أنه وريث هذه الانتفاضة وضميرها السياسي، وأنه بالتوازي نقطة التقاطع بين هذا المزاج الشعبي والتركيبة السياسية التي تضمن عبر المؤسسات الدستورية إصلاحاً منشوداً سلمياً وسلساً وتحول دون فوضى مقلقة.

  يعتمد رئيس الحكومة منهجاً تجريبياً مدروساً في العمل، يقوم على طرح القضايا أمام فرق عمل متخصصة يترأسها الوزراء ويشارك فيها الخبراء، وهو متحرر في مقاربة النتائج من ثلاثة حسابات تحضر في مواقف القوى السياسية المشاركة في الحكومة، حساب المصلحة السياسية والحزبية، وحساب مصالح مباشرة لشريحة تشكل بنية محيطة ولصيقة بكل منها، وحساب موقف عقائدي أو مبدئي يقبل ويرفض الخيارات على أساسه. فهكذا تدرج في قضية الموقف من سداد الديون والامتناع، من حساب السيناريوات، سداد دفعة أولى، أو سداد الفوائد، أو لا سداد، وهكذا تدرج في التعامل مع مخاطر تفشي كورونا، من الاحتواء الهادئ إلى إقفال المدراس والجامعات، إلى إقفال الملاهي والمطاعم، وصولاً إلى التعبئة العامة وإقفال المطار والمعابر الحدودية، وانتهاء باستعمال كل تدابير تتيحها التعبئة العامة، وليس حالة الطوارئ التي تحفظ لرئيس الجمهورية دور القائد الأعلى للقوات المسلحة وتهمش رئيس الحكومة والحكومة، ورغم ذلك ينادي بها من يعتبرون أنفسهم مدافعين عن دور وصلاحيات رئاسة الحكومة، لاعتبارات مذهبيّة، بينما يرى تمسكه بهما لإعتبارت إصلاحيّة.

في قضية الكابيتال كونترول، وفي قضية صندوق النقد الدولي، وتالياً في قضية عودة المغتربين، حمل رئيس الحكومة حسابات السيناريوات المفترضة، والمكاسب والمخاطر، ولم يحمل موقفاً مؤيداً أو رافضاً، بخلاف شركائه السياسيين في الحكومة، وكان التفاعل الساخن بينه وبين الشركاء، الذين تفرض طبيعتهم كأحزاب وقوى سياسية وشعبية، أن يتخذوا الموقف ثم يتعاملوا مع الوقائع، بينما هو يتعامل مع الوقائع في طريق طويل قبل الوصول للموقف. فأنتج هذا التفاعل الساخن رغم أضراره الجانبية، توازناً ألزم الشركاء بتحمل تبعات أو ملاقاته في منتصف الطريق، بينما ألزمه بتراجعات وتعديل في الموقف، لكن النظرة الحيادية والموضوعية ستقول إن ما نتج كان الأمثل والأفضل، وإنه غير معتاد في تاريخ الحكومات، والخطأ الكبير هو في قراءة الحاصل برابح وخاسر، بل برؤية القرار النهائي وما لحقه من تعديلات على مواقف الطرفين، نحو الأفضل، واعتباره اختباراً للتأقلم المتبادل بين رئيس الحكومة وشركائه، يستدعي من رئيس الحكومة الاكتفاء بنصف دراسة قبل القرار لإفساح المجال للنصف السياسي منه، وترك النصف الثاني من الدراسة لبلورة الخطة التنفيذية، بدلاً من اشتراط تحكم كامل الدراسة التقنية بالقرار وعزله المستحيل عن كل ما هو سياسي، ويستدعي من شركائه بدلاً من اتخاذ القرار وفقاً للاعتبار السياسي الخالص وترك الدراسة التقنية لبلورة الخطة لتنفيذه فقط، تقبل نصف الدراسة التقنية كشرط لبلورة القرار بمصالحة التقني والسياسي فيه، واعتماد نصف الدراسة التقنية الثاني كأساس في رسم الخطة التنفيذية.

– ربما سيحتاج الطرفان مزيداً من التمارين والاختبارات حتى تتبلور حالة التأقلم المنشودة بينهما، لكن الأكيد أن الحكومة باقية، وأن لا قرار لدى أحد بالمغامرة بفتح ملف رحيلها. والأكيد أن رئيس الحكومة نجح في إثبات استقلاله وإدخال الروح التقنية على العمل الحكومي والسياسي، وأن حلفاءه وشركاءه في الحكومة نجحوا في منحه فرصة دخول عالم السياسة والتأقلم مع حقيقة أن روما من فوق غير روما من تحت، والأكيد الأهم أن الذين ينتظرون تحوّل واحد من هذه التمارين إلى انفجار يطيح الحكومة ويفكك التحالف الذي جاء برئيسها ومنحها الثقة، سينتظرون طويلاً وطويلاً جداً، وستكون الخطة الاقتصادية والمالية للحكومة هي المولود الأهم، الذي آن له أن يبصر النور، لتشكل التعبير الأهم عن بلوغ التأقلم بين الفريقين مرحلة النضج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى