بقلم غالب قنديل

الدولة والخدمة العامة والتضامن الإنساني

غالب قنديل

جاء وباء الكورونا لينعش أفكارا تراكم عليها غبار هجمات النيوليبرالية والعولمة المتوحشتين خلال نصف قرن من تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي تسيدته الإمبراطورية الأميركية وقادت لنشره وفرضه حروبا ضارية في مئة وأربعين بلدا على وجه الكرة الأرضية تتواجد على أراضيها وحدات الكوماندوس والقواعد العسكرية ( ولبنان منها ) وفرق العدوان والتدخل والقيادة من الخلف في حروب بالواسطة جندت لها وحدات همجية من الإرهابيين والقتلة المرتزقة.

 

 اولا كان النصيب الأكبر والأخطر لبلدان الشرق العربي التي شهدت في العشرين عاما الماضية اعنف الحروب والمذابح التي عرفها التاريخ المعاصر على يد الحلف المضرج بدماء الأبرياء الذي يضم حكومات الناتو والكيان الصهيوني وحكومات الرجعية العربية العميلة والتابعة.

رافقت الهجمة العسكرية والاقتصادية على العالم الثالث لنهب الثروات والسيطرة على الأسواق حملة دعائية واسعة لنشر القيم الاستهلاكية ولتدمير مفهوم الاستقلال الوطني والدولة الوطنية ولسحق فكرة الخدمة العامة ولإشاعة الفردانية كطريقة عيش تتنكر لجميع القيم الإنسانية الجماعية التي ميزت الثقافات والحضارات البشرية عبر التاريخ وحملتها سائر الأديان ومعظم المذاهب الفكرية والفلسفية في الشرق والغرب.

وباء كورونا وأيا كان مصدره اوكيفية تفشيه وانتقاله يطرح التحدي الأخطر على البشرية كلها في هذا القرن وهو يثير جدلا واسعا حول سبل الوقاية والمقاومة وتظهر نماذج مختلفة في التعامل معه ومع ما يمثله من خطر وجودي على الشعوب والدول ويمكن القول ان ما نشهده في هذا المجال يقدم دروسا ثمينة ينبغي حفظها جيدا.

ثانيا تظهر التجربة فداحة التوحش النيوليبرالي ونموذجه السلطوي المسخر في خدمة الاحنكارات واهمية فكرة الدولة الوطنية المركزية الراعية التي تعلي شأن المصلحة العامة للشعوب والمجتمعات وهذا النموذج من الدول كان مادة هجاء وتشهير وشيطنة على امتداد عشرات السنين وأطلقت عليه نعوت وتسميات وصفات الشمولية والاستبداد حتى لو كان مرتبطا بنموذج وطني خاص للانتخاب ولتداول المسؤولية لكن المعضلة الفعلية كانت في رفض الاعترافيات بخصائص الدول الخارجة عن الهيمنة الغربية والتي تهدد تلك الهيمنة بإرادتها التحررية ونزوعها المتمرد على المشيئة الإمبراطورية الطاغية.

في قلب دول الغرب الصناعي التي قدمت نفسها نموذجا ملهما للعالم الثالث يبدو واضحا ان انتشار الوباء تمادى حيث تم تدمير مفهوم الخدمة العامة وفي البلدان التي تخلت عن مسؤوليات الدولة الوطنية الراعية لصالح الشركات الاحتكارية وهي وجدت نفسها مضطرة إلى ممارسة دورها تحت ضغط الكارثة.

ثالثا إضافة لانبعاث فكرة الدولة الراعية والخدمة العامة والتضامن الاجتماعي داخل البلدان ظهرت الحاجة للتكاتف الأممي العابر للحدود والقوميات في تصحيح لنظرة العولمة المتوحشة التي سوقها المخططون الأميركيون وبشروا بها وفرضوا بواسطتها إباحية اقتصادية شاملة تخضع العالم لسطوة الإمبراطورية ولصوصيتها الفالتة وتسحق فرص التنمية المستقلة في كل مكان على وجه الأرض.

على إيقاع المصالح الأميركية أدارت الإمبراطورية  تعاملها مع التحولات فعادت إلى الحمائية والحروب التجارية امام خطر صعود قوى عظمى جديدة في الشرق يمكن ان تنهي عهد التحكم الأحادي بالعالم وبالمقابل فإن الدول الشرقية الصاعدة بقيمها الحضارية والإنسانية أثبتت في قلب التحدي التزامها بالأخوة الإنسانية كقيمة ترقى فوق السياسات الصغيرة ومعايير الربح والخسارة لصالح إعلاء رعاية الوجود الإنساني وحمايته قبل أي قيمة اخرى وهي عبر بعثاتها إلى أوروبها تلقن العالم درسا في التضامن الأممي.

رابعا خلاصتنا اللبنانية التي يجب التمسك بها والتمعن في سبل تجسيدها هي أن زحف الكورونا استكمل دروس سقوط النموذج الريعي التابع اقتصاديا قبل أشهر لتبرز لدينا الحاجة إلى قيام نموذج جديد في نمط العيش فبعد هذا الزلزال العالمي تبدلت جميع الحسابات وربما تتغير جميع المواقف والخيارات وما كان الرهان عليه من مساعدات لانعاش النموذج الساقط وإحيائه مجددا بخطط التسول لم يعد واردا في ظل استدارة سائر الحكومات الغربية والخليجية إلى اولوياتها الخاصة بين دفتي الكورونا وتحولات أسواق النفط وعائداته.

اكدت تجربة كورونا ان الحماية كالتنمية والاستقلال هي مصلحة عابرة للحدود وتقتضي التكتل القومي الذي يرفد قدرات بلد صغير كلبنان وان الشرق الذي وجدنا فيه الشريك الامثل في التجاوز المنطقي للانهيار الاقتصادي والمالي وفي البحث عن دور جديد للاقتصاد اللبناني والخبرات اللبنانية هو أيضا المسعف الذي يغيث الغرب نفسه في وجه الوباء وهي عبرة حضارية وجب حفظها والاتعاظ منها لأنها ترجح كفة نماذج الدول الشرقية الصاعدة وخياراتها الاقتصادية الدولتية ورعايتها لشعوبها وللبحث العلمي والتقدم الطبي والعلاجي انطلاقا من استقلالها ورفضها للهيمنة أيها اللبنانيون هذا الوباء يدعونا للتعلم والاتعاظ من التجربة فهل نفعل ؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى