التحوّلات في المشهد الأميركي تجاه القضية الفلسطينية: زياد حافظ
العلاقة المتينة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر من جهة ورئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو من جهة أخرى هي كالشجرة التي تحجب الغابة. والمقصود هنا هو عمق وصلابة العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فالمشتركات عديدة خاصة في ما يتعلّق بتكوين الكيانين الأميركي والصهيوني، أيّ موجات وافدة من المستعمرين الأوروبيين إلى أراض لا يملكوها فاستعمروها بعد إبادة شعوبها الأصلية أو ترحيل معظمها. كما أنّ المشترك الثاني هو النظرة التوراتية لـ «رسالة» لكلّ منهما. فأميركا هي أرض «الميعاد الجديدة» و»المدينة على الجبل» لتحقيق «القدر المتجلّي»، بينما بالنسبة للكيان فلسطين هي «العودة» إلى أرض الميعاد الأصلية. وإضافة لتلك المشتركات هناك خطابات تمّ سردها حول «القيم المشتركة» كالقيم اليهودية المسيحية، و»الديمقراطية» وحقوق الإنسان إلخ…
ومن يروّج لتلك السرديات مجموعات من المؤسسات والشبكات الصهيونية تدعمها مجموعات وشبكات تنتمي إلى الإنجيليين الجدد (فكلّ شيء جديد في الولايات المتحدة، المحافظون، والانجيليون، والنيوليبراليون، والمتدخلوّن الليبراليون الجدد!). وهذه الشبكات والمؤسسات كانت فاعلة في منع أيّ نقد لسياسات الكيان و/أو الكلام عن قضية فلسطين وحقوق شعب فلسطين. بل ذهبت الصلافة في إعلان عدم وجود للفلسطينيين وفقاً لما صرّحت به رئيسة وزراء الكيان سابقا غولدا مائير أو أنّ الفلسطينيين «دابة على رجلين» وفقا لرئيس وزراء سابق آخر مناحيم بيغن!
الإعلام المهيمن (main stream media) لعب دوراً أساسياً في ترويج الخطاب الإلغائي للوجود الفلسطيني في فلسطين والمسرح الدولي وخاصة في الولايات المتحدة. وتسعون بالمائة من ذلك الإعلام تملكه ستّ شركات فقط. أما رؤساء التحرير والمحرّرون فأغلبيتهم من الصهاينة أو الخاضعين للرغبة الصهيونية. وبالتالي كان وما زال من الصعب إيجاد الخطاب المغاير للخطاب الصهيوني في الولايات المتحدة.
لكن هذه الصورة تتغيّر مع الوقت. لقد رصدنا منذ عدّة سنين تحوّلات في الراي العام الأميركي على حساب النفوذ الصهيوني وخطابه. وهذه التحوّلات أتت وما زالت تأتي بسبب تراكم عوامل عدّة منها موضوعية كتراجع الولايات المتحدة في العالم وترهّل النظام السياسي في الداخل، وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته رغم المحاولات لتحريفها وتشويهها ورغم رداءة القيادة في السلطة، ومنها ذاتية كزيادة في الوعي عامة وعند الشباب خاصة في الولايات المتحدة. صحيح أنّ قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي ما زالت تتماهى مع سياسات الكيان وإنْ كانت على حساب مصلحة الولايات المتحدة، لكن ضمن هذه النخب بدأت تظهر قيادات لم تعد مقيّدة كما كانت أسلافها بمقتضيات الخطاب الصهيوني أو الداعم للصهيونية.
هذه الظاهرة بدأت منذ السبعينات من القرن الماضي، وهناك من يذهب أبعد من ذلك إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما عارض وزير الخارجية للرئيس ترومان جورج مارشال الاعتراف بالكيان الصهيوني لأنّ ذلك سيضرّ بمصالح الولايات المتحدة ويشوّه سمعتها. فتم ابعاده ثم تمّ «انتحاره» سنة 1951 بحجة انهيار أعصاب! وهناك من يجزم بأنّ الرئيس الأميركي جون كنيدي قُتل على يد الموساد لأنه عارض البرنامج النووي الصهيوني. لكن بعيداً عن هذه الروايات المعبّرة هناك رموز سياسية واجهت النفوذ الصهيوني ودفعت ثمناً غالياً كالشيخ فرانك شورش وشارل برسي والنائب بول فندلي صاحب الكتاب الشهير «تجرّأوا على الكلام» الذي صدر سنة 1985 ((They dared to speak out على سبيل المثال وليس الحصر.
خلال العقدين الماضيين زادت وتيرة الاعتراض على التدخّل الصهيوني في الشأن الأميركي فكان المقال ثم الكتاب الشهير «لوبي إسرائيل والسياسة الخارجية الأميركية» (2007) للجامعيين من هارفارد وشيكاغو اي ستيفن والت وجون مرشهايمر. الكتاب واجه اعتراضاً كبيراً من قبل أبواق جمعية الأيباك الصهيونية والشبكات الصهيونية العاملة في الولايات المتحدة. رغم ذلك الاعتراض فإنّ مبيعات الكتاب تصدّرت القائمة للكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة والتي تعدّها «نيويورك تايمز» المعروفة بانحيازها التام للكيان الصهيوني. وهناك أيضاً النائب من جورجيا سينتيا مكّيني التي واجهت نفوذ الكيان فتمّ اقصاؤها سنة 2007 من الكونغرس الأميركي بدعم من قيادات حزبها أيّ الحزب الديمقراطي. والحزب معروف بأنّ أكثرية قيادته صهيونية أو متصهينة بسبب نفوذ الأيباك، غير أنّ داخل الحزب حصلت تطوّرات قد تؤدّي إلى انشطاره بسبب الولاء الأعمى للقيادات التقليدية للكيان الصهيوني. فالجيل الشاب داخل الحزب، خارج وداخل الكونغرس، يعارض بشدّة سياسات قيادته تجاه الكيان والقضية الفلسطينية.
هذا الجيل الشبابي داخل الحزب الديمقراطي استطاع أن يرسل إلى الكونغرس عدداً من النوّاب الذين يعترضون على السياسات التقليدية الأميركية الداعمة بدون قيد أو شرط للكيان الصهيوني. في الدورة الانتخابية الأخيرة سنة 2018 وصل إلى الكونغرس كلّ من رشيدة طليب المتحدّرة من أصول فلسطينية وإلهان عمر المتحدّرة من أصول صومالية وبتّي مكولون من ولاية منسّوتا والكسندرا اوكازيو كورتيز من ولاية ومدينة نيويورك، معقل النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة. وهؤلاء معروفون باعتراضهم الشديد على سياسات الإدارة الأميركية الداعمة للكيان. صحيح أنّ عددهن قليل نسبياً لكن فعّاليتهن كبيرة جدّاً في التأثير على الخطاب الداخلي في الحزب. لم تعد قيادات الحزب قادرة على حجب النقاش عن قضية فلسطين والممارسات العنصرية لحكومة الكيان. حتى المرشّح الرئاسي برني سندرز، المتقدّم في استطلاعات الرأي العام على جميع منافسيه، يتكّلم عن حلّ الدولتين وحقوق الشعب الفلسطيني وهذا ما كان غائباً مطلقاً في المناظرات السياسية في الحملات الانتخابية الرئاسية. قضية فلسطين فرضت حالها وبسبب جهود النوّاب الأربعة اللواتي تدعمن ترشيح برني سندرز. وهذه ربما من أسباب عداء القيادات الديمقراطية من الزوجين كلينتون وأوباما إلى بلوزي وشومر وقيادات اللجنة الوطنية الديمقراطية ومحاولات إقصاء سندرس عن الحصول على التسمية للرئاسة.
هذا التطوّر عند الشباب الديمقراطي رافقه تطوّر آخر ضمن الجالية اليهودية الأميركية الشابة. فهناك عدد كبير من الشباب اليهودي يرفض جملة وتفصيلاً المبرّرات التي تقدّمها حكومة الكيان والتي تتبنّاها بدون تحفّظ القيادات الأميركية للإجراءات بحق الفلسطينيين وتعتبر ما تقوم به هو نوع من العنصرية التي لا تتماهى مع القيم اليهودية. فعّالية تلك الأصوات جعلت رئيس وزراء الكيان ألا يعتمد على الحزب الديمقراطي في دعم الكيان بل يركّز على دعم الحزب الجمهوري بشكل عام والإنجيليين الجدد من بينهم كـ مايك بنس ومايك بومبيو واريك برنس على سبيل المثال الذين يعتبرون دعم الكيان فرضاً دينياً. ومن الأصوات اليهودية الشابة التي زارت الكيان ورأت بأمّ العين الممارسات الصهيونية بحق الفلسطينيين في غزّة وفي فلسطين المحتلّة الإعلامي المعروف ماكس بلومنتال ودان كوهين ومايك وايز على سبيل المثال. ومع بروز تلك الأصوات هناك مجموعات يهودية تعمل بشكل منظّم لنقض السردية القائمة تجاه فلسطين ك «صوت اليهود من أجل السلام» (Jewish Voice for Peace) ومنظّمة «جي ستريت» التي هي نسخة مخفّفة عن الايباك ولكنها تتكلّم بضرورة حلّ الدولتين وليس طروحات ترامب أو نتنياهو.
في ما يتعلّق بالإعلام نرى الإعلام الموازي أيّ المواقع الالكترونية كموقع «موندوويس» (Mondoweiss) الذي يديره فيليب ويس وهو يهودي أميركي، ومجّلة أونز» (Unz Review) والمجلّة الألكتروينة «اينفورماشون كليرينع هاوس» (Information Clearing House) على سبيل المثال وليس الحصر. فموقع «موندوويس» يصدر يومياً رسالة عن الأوضاع في فلسطين وعن نشاطات المنظّمات المناهضة للاحتلال وعن الإجراءات القمعية بحق الفلسطينيين. كما أنّ موقع «اونز» لمؤسسه رون أونز وهو يهودي أيضاً يعرض مقالات وتحليلات لكتّاب وناشطين يندّدون بسياسات الكيان. وهذا الموقع هو الأوسع انتشاراً في الولايات المتحدة وفقاً للإحصاءات التي صدرت حول عدد المتابعين لتلك المواقع. وعلى صعيد آخر هناك مواقع غير يهودية كموقع «ناشونال انترست» (National Interest) الذي يترأسه الضابط السابق في الوكالة المركزية للاستخبارات فيليب جيرالدي والذي يضمّ قدامى الدبلوماسيين وضباطاً عسكريين واستخباريين سابقين إضافة إلى مسؤولين سابقين في الإدارات الأميركية وجامعيّين وكتّاب وناشطين يندّدون بسياسات الإدارة المؤيّدة للكيان وعلى حساب حقوق الشعب الفلسطيني لأنّ ذلك يضرّ بالمصالح الأميركية. وهناك أيضا جمعية قدامى الضباط الاستخباريين التي يترأسها راي مكغوفرن والذين يتصدّون لأكاذيب الإدارة والكيان الصهيوني. والتنديد بهذه السياسات نابع عن قناعات وقيم أخلاقية كما أنه نابع عمّا يعتبرونه مصلحة الولايات المتحدة التي ليست بالضرورة مصلحة الكيان. فالأخير مصالحه تتناقض مع المصالح الأميركية الحقيقية كالعلاقة مع شعوب المنطقة والمصالح الاقتصادية وحتى أمن الوجود العسكري في المنطقة. فسياسات الكيان تهدّد ذلك الوجود كما أوضحته شهادات القيادات العسكرية في جلسات الاستماع في مجلس الكونغرس الأميركي.
ما نشهده أيضاً في الخطاب الجديد المندّد لسياسات الكيان عبارات وجمل كـ «العصابة الانجلوساكسونية الصهيونية» و»الصهاينة» في أميركا. ويعود للمحلّل المرموق والمرشّح السابق للرئاسة عن الحزب الجمهوري بات بيوكانان الذي يكتب مقالاً أسبوعياً في مجلة «اميركان كنوسرفاتيف» ويعيد نشره موقع «اونز» إطلاق مصطلح «الكونغرس الأميركي أرض محتلّة إسرائيلياً». أما ضابط الاستخبارات العسكرية المتقاعد بات لانغ صاحب موقع «سيك سمبر تيرانيس» الواسع الانتشار فلا يتردّد هو وكتّابه عن وصف جماعة الأيباك بالعصابات الصهيونية. كما يشهّر بالأبواق الأميركية التي تنقل السردية الصهيونية دون تحفّظ كـ بريت ستيفن في صحيفة «نيويورك تايمز». أما الموقع الشديد الأهمية والواسع الانتشار والقراءة فهو موقع «قمر الاباما» لصاحبه برنارد هورستمان وهو ضابط استخبارات سابق له شبكة من العلاقات المميّزة. والمعلومات التي ينشرها دقيقة وتحليلاته تتحلّى بالعمق والدقة. هذا الموقع يندّد بسياسات الإدارة تجاه فلسطين والعلاقة غير الصحية مع الكيان.
رمز قوّة اللوبي الصهيوني يتمثّل بمنظمة ايباك التي تدير شبكات من المؤسسات العاملة في مختلف المجالات لترويج قضية الكيان وسياساته. وهي الممرّ الإلزامي، حتى الآن على الأقلّ، لكلّ شخص يطمح بالعمل العام سواء على مستوى الولاية أو مستوى الاتحاد. لسنا هنا في إطار تعداد «إنجازات» تلك المنظّمة وذلك اللوبي الذي كتب عنه العديد من الباحثين العرب وغير العرب. ما نريد أن نقوله إنّ نفوذ ذلك اللوبي بدأ بالأفول. حتى الساعة لم يتجرّأ أيّ سياسي أو سياسية على تجاهل الايباك ولكن ما حصل في 24 شباط/ فبراير 2020 بمثابة زلزال سياسي. فقد أقدم المرشح الديمقراطي الرئاسي برني سندرز، المتقدّم في استطلاعات الرأي العام في الانتخابات الأولية، على تصريح مفاده عدم حضوره مؤتمر الايباك الذي يصادف أسبوع الانتخابات الأولية في 11 ولاية كبيرة كتكساس وفيرجينيا وألاباما وأوكلاهوما وأركنساس وكولورادو ومينيسوتا وجورجيا وتنسّي وفيرمونت وماساشوستس. والأهمّ من ذلك الرفض هو تعليله أيّ بسبب موقف الكيان الصهيوني من حقوق الشعب الفلسطيني. هذا الموقف ليس موقفاً عابراً من سياسي مغمور بل من مرشّح رئاسي متقدّم على جميع خصومه في استطلاعات الرأي العام. ففلسطين أصبحت «ناخباً» في الانتخابات الرئاسية الأميركية وهذه نقطة تحوّل يجب التوقّف عندها. وبفضل سندرز تمّ إدراج القضية الفلسطينية في المناظرات بين المرشحّين الديمقراطيين للرئاسة. موقف سندرز كان وما زال مختلفاً عن خصومه في معركة الرئاسة وهذا رغم عدم دعم المانحين الكبار لحملته. فالأخيرة مموّلة من القاعدة الشعبية التي لا تستطيع قيادة الحزب السيطرة عليها.
أن يتجرّأ برني سندرز على مقاطعة الايباك حدث كبير بحدّ ذاته قد تكون له تداعيات خطيرة على اللعبة السياسية الأميركية إذا ما استطاع الحفاظ على مكانته في استطلاعات الرأي العام والفوز بالانتخابات الأولية. كلّ ماكينة اللوبي الصهيوني من إعلامية وغير إعلامية ستصبّ على شيطنة «مرشّح روسيا» أو «المرشّح الشيوعي». لن يجرؤوا على نعته بمعاداة السامية فهو يهودي الديانةّ! لكن إذا ما استطاع تجاوز الايباك فهذا سيكرّس أفول نجم اللوبي الصهيوني. بالمناسبة لقد مُنيت منظّمة الايباك بهزائم نكراء في الانتخابات الرئاسية الثلاث الماضية. المرّة الأولى عندما دعمت المرشح الجمهوري جون مكّين ضدّ باراك أوباما، المرّة الثانية عندما دعمت المرشّح الجمهوري ميت رومني ضدّ باراك أوباما مرّة أخرى، والمرّة الثالثة عندما دعمت المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلنتون ضدّ دونالد ترامب. ولا يمكن التكهّن من سيدعم اللوبي الصهيوني ترامب أم سندرز إذا ما فاز الأخير بالتسمية من الحزب الديمقراطي. فنفوذ منظمة ايباك محدود خارج ما يُسمّى ب «البلتواي» أيّ الطريق الحزام الذي يلفّ العاصمة الأميركية والذي يشمل ولايتي مريلاند وفيرجينيا ويضمّ مقر اللوبيات المختلفة والمحلّلين السياسيين والسياسيين أنفسهم. فـ «البلتواي» يمثّل النخب السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة ونادراً ما تكون توقّعاته صائبة ولكنها ما زالت تتحكم بالرأي العام «الرسمي» أو «المهيمن».
الغضب على منظمة ايباك بدأ منذ السبعينات عندما بدأت تتدخّل بشكل سافر في الشأن الداخلي الأميركية. وقد أنجزت نجاحات كبيرة عبر إقصاء شخصيات مرموقة من العمل السياسي لتجرّئها على معارضة أيباك أو انتقاد السلوك الصهيوني. لكن نقطة التحوّل بدأت مع زيارة نتنياهو للكونغرس الأميركي في آذار/ مارس 2015 وتجاهل الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما. شهدنا آنذاك على عدّة مواقع انتقادات حول وقاحة نتنياهو وخنوع الكونغرس الذي صفّق لنتنياهو حوالي 30 مرّة عندما كان يلقي خطابه أمام الاجتماع المشترك لمجلس الشيوخ ومجلس النوّاب. الانتقادات لم تهدأ منذ ذلك الحين وخاصة بين الشباب الأميركي بشكل عام والشباب اليهودي الأميركي بشكل خاص.
التحوّل في موقف الشباب الأميركي اليهودي لافت للنظر ومقلق جدّاً للقيادات الصهيونية الأميركية كإليوت ابرامز أحد رموز المحافظين الجدد. تعصّب ابرامز ليهوديته جعله ينتقد بشدّة الشباب اليهودي الأميركي الذي أصبح مندمجاً كلّياً بالمجتمع الأميركي عبر التزاوج من غير يهود. وقد حذّر ابرامز من استمرار ذلك النهج الذي سيضعف العصبية اليهودية والحماس للكيان على حدّ زعمه. والشباب اليهودي من أركان القاعدة الناشطة للحزب الديمقراطي وتوجّهه أصبح في مكان مختلف. أشرنا أعلاه إلى فعّالية كل من رشيدة طليب والهان عمر وبتي مكولون والكسندرا اوكازيو كورتيز على سبيل المثال وقد يؤدّي ذلك إلى انشطار الحزب إذا ما أقدمت قياداته على دفع مرشحين لمنافستهن. شيطنتهن بدأت منذ فترة لكنهن لم يتراجعن حتى الآن عن مواقفهن.
أما على الصعيد الجامعي فهي الساحة الرئيسية للحراك المناهض للنفوذ الصهيوني. يمكن القول بكلّ ثقة إنّ المعركة حُسمت لمصلحة من يناهض النفوذ الصهيوني. صباح يوم الثلاثاء في 25 شباط/ يناير طالب طلاّب جامعة هارفارد المرموقة مقاطعة الكيان كما طالبت تفكيك استثمارات أوقاف الجامعة في الكيان. كما لا بدّ من الإشارة إلى سلسة اللقاءات والندوات التي تقام في الجامعات الكبيرة والصغير التي تعيد صوغ السردية حول فلسطين ما أغضب اللوبي الصهيوني. فالضغوط على المسؤولين في الجامعات لمنع قيام نشاطات تندّد بالكيان وتدعم الحق الفلسطيني تواجَه بموجة رفض من قبل الطلاّب. نشير هنا إلى محاولات منع إقامة خلقة نقاشية في جامعة امهرست في ولاية ماساشوستس في تشرين الثاني 2019 أدارتها الناشطة ليندا صرصور، وهي أميركية من أصول فلسطينية، حضرها الجامعي البارز كورنيل وست والناشطة ديما خالدي والكاتب اليهودي الديانة تيم وايز والكاتب شون يونغ، كما شارك عبر السكايب من فلسطين المحتلّة عمر البرغوتي أحد مؤسّسي «بي دي اس» الذي منعته الإدارة الأميركية من دخول الولايات المتحدة. هدف الحلقة هو الاحتجاج على تجريم الاختلاف مع السردية القائمة تجاه القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني بعد أن بات واضحاً عدم تمكّن اللوبي الصهيوني من تحمّل انتقاد الكيان وإحياء القضية الفلسطينية في الأوساط الجامعية. هذا وقد اعترض مستشار الجامعة على إقامة الندوة لكن مجلس الطلاب رفض ذلك ومعه معظم الجسم الأكاديمي. كما نشير إلى أنّ جامعتي ديوك ونورث كارولينا المشهورتين في مجالات الأبحاث العلمية والطبية رفضتا إملاءات الإدارة الأميركية من «تطهير» البرامج التربوية من أيّ إشارة إلى فلسطين أو أيّ إدانة للكيان. هذه بعض الأمثلة حول التحوّلات في مواقف الجامعات وعددها كبير جداً.
ويأتي هذا الموقف كمحطّة في سلسلة إجراءات مناهضة للكيان بدأت منذ عام 2005 عندما تأسّست مجموعة «بي دي أس»، أيّ المجموعة التي تدير المقاومة السلمية في وجه الكيان على الصعيد العالمي. «بي دي أس» تستحق مقالاً منفصلاً لأهميتها ولكن لضيق المساحة نكتفي بالقول إنّ نجاحات «بي دي اس» جعلتها الكابوس الأكبر للمنظمات الصهيونية العاملة في الولايات المتحدة والعالم الغربي. من دلائل نجاح «بي دي اس» لجوء المنظمات الصهيونية لاستصدار تشريعات في المجالس النيابية في الولايات تجرّم التعامل معها وتحظر التعامل معها. وما يؤكّد على ذلك الخوف والقلق الصهيوني الحملة الكبيرة التي تشنّها المنظمات الصهيونية لجعل معاداة الصهيونية تعادل المعادات للسامية، وبالتالي تجعل انتقاد الكيان الصهيوني جريمة. فإذا ما اضطرت المنظمات إلى استعمال كافة نفوذها لاستصدار تشريعات من هذا النوع مستفيدة من وجود إدارة تجاهر بدعمها للكيان ولإقامة كيان عنصري فهذا دليل على أنّ تلك المنظّمات خسرت معركة الرأي العام في الولايات بشكل عام وخاصة في الجامعات. صحيح أنه تمّ استصدار تلك التشريعات في 27 ولاية ولكنّها جميعها معرّضة للنقض والردّ من قبل المحكمة الدستورية الاتحادية لأنها تعارض بشكل سافر حرّية الرأي والتعبير وتمارس التمييز المرفوض في الدستور الأميركي.
في آخر المطاف لم يعد اللوبي الصهيوني قدراً على من يريد الخوض في الشأن العام في الولايات المتحدة. هذا لا يعني أنّ تأثيره قد اختفى فما زال قوياً جدّاً على الأقلّ عند النخب الحاكمة. لكن مسار الأمور يدلّ بشكل واضح على أفول ذلك النفوذ وربما تحرّر القوى السياسية الأميركية وخاصة الشابة من كابوس ذلك اللوبي. والأيام ستؤكّد ذلك.
(البناء)