ثبات الاتفاق النوويّ مؤشر على ما هو أبعد بكثير: ناصر قنديل
– يقول دبلوماسي روسي مخضرم إن دور الدبلوماسية قراءة الجوانب التي لا يقرأها الآخرون في الأحداث، لأنها تنبئ بما لا تكشفه الوجهة الطاغية على الحدث، فعندما وقع الاتفاق النووي بين مجموعة الخمسة زائداً واحداً مع إيران، وكان الناس يستقرئون النتائج السياسية والاستراتيجية والاقتصادية المتوقعة، فيما كانت الدبلوماسية المحترفة وذات الخبرة في أي بلد في العالم، معنية باستكشاف تعقيدات تطبيق الاتفاق واحتمالات عرقلته وتفخيخه في سياق التنفيذ، وصولاً لتعليقه أو نسفه، وكانت عليها محاولة توقع السيناريوات المحتملة. ويضيف الدبلوماسي الروسي المخضرم، أنه مع التعقيد الذي يواجهه الاتفاق منذ سنتين، وصولاً لخطر السقوط، من واجب الدبلوماسية أن تطرح السؤال حول أسباب صمود الاتفاق حتى الآن؟
– معطيات سقوط الاتفاق متوافرة، فالانسحاب الأميركي، يطرح السؤال الفوري عن مبرر البقاء الأوروبي في الاتفاق، بينما العودة لمراحل التفاوض تكشف أن الأوروبيّين كانوا أكثر تشدداً من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في مراحل المفاوضات الأخيرة، بل إن طروحاتهم كشروط للتوقيع كانت تشبه المطالب التي رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب كمبررات للخروج من الاتفاق، ولو أخذنا بنظرية الاعتبارات الأوروبية الخاصة للبقاء تحت سقف الاتفاق، بعدما صار واقعاً قانونياً، فلا يمكن أن نصدق أن الخلفية المبدئية الداعية لاحترام الاتفاقات والقرارات الدولية تشكل سبباً كافياً لما يبدو نوعاً من التمرد الأوروبي على قرار أميركي في قضية رئيسية ومحورية، وإن وضعنا أمامنا معنى التزام أوروبا بالتحذيرات الأميركية في رسم سقف تمسكها بالاتفاق بحدود الموقف القانوني والدفاع الدبلوماسي دون الترجمة الاقتصادية العملية التي تهم إيران أساساً، وتشكل معيار قرارها بالبقاء ضمن الاتفاق أو البحث بالخروج منه، سنكتشف أن تكاملاً أميركياً أوروبياً منسقاً أو غير منسق، يحكم الموقف من الاتفاق، عنوانه حماية الاتفاق من السقوط، وبالتوازي حرمان إيران من عائداته، أو من أبرز عائداته، عندما يقتضي الحفاظ على الاتفاق ترك بعض العائدات لإيران وفقاً لسياسة التنقيط.
– بالمقابل توفّرت لإيران كل الأسباب الموجبة لإعلان الانسحاب من الاتفاق، لكنها كما أوروبا، تبدو متمسّكة بمنع سقوطه، فكل منهما تصل إلى باب الخروج ثم تعود وتدخل إلى ردهة الاتفاق، فقد وفر الامتناع الأوروبي لإيران فرصة الانسحاب، لكنها فضلت التلويح بالخروج من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية على التهديد بالخروج من الاتفاق. وعندما هددت أوروبا بتفعيل آلية الخروج من الاتفاق، وسمعت التهديد الإيراني، هرع وزير خارجية الاتحاد الأوروبيّ جوزيب بوريل إلى طهران ومنها إلى واشنطن، وجرى صرف النظر عن التهديدات المتبادلة.
– اجتماع فيينا الذي عقد أمس، بين دول الأربعة زائداً واحداً مع إيران، شهد تأكيداً على أن ثبات الاتفاق كإطار لمرحلة جديدة في الدبلوماسية الدولية، وللعلاقات بين إيران والمجموعة الدولية، أكبر من النزاع الأميركي الإيراني، حتى لو بقي الاتفاق مجرد إطار نظري لمدة زمنية فهو عائد ولو بعد حين، وسيبقى على قيد الحياة حتى يحين أوان تفعيله، أو تعديله من قلب الآليات والأطر التي نص عليها، وقد اكتشف الأميركيون والإيرانيون أطراً بديلة للاتفاق كميادين لخوض النزاع، وتحييد الاتفاق عن المنازلة، بوضعه جانباً بانتظار نهاية المنازلة أو تبلور موازين مسلّم بها تفتح باب التفاوض. فإقدام واشنطن على إطلاق صفقة القرن واغتيالها للقائد الإيراني قاسم سليماني، وبالمقابل الردّ الإيراني الصارم على واشنطن بقصف أهم قواعدها في المنطقة، وإعلان إيران بدء معركة إخراج الأميركيّين من المنطقة، بقدر ما يؤشران على وجود درجة عالية من الخطورة في مستوى المواجهة بين اللاعبين الأهم في الشرق الأوسط، يدلان على تسليم ضمني منهما بأن الانتقال إلى هذه اللحظة التصعيديّة أقل خطورة من ضغط أميركي على أوروبا للخروج من الاتفاق بهدف إسقاطه نهائياً، بالنسبة لواشنطن، وأقلّ من قرار الخروج من الاتفاق، لتكريس سقوطه، بالنسبة لطهران.
– يقول الدبلوماسي الروسي المخضرم، إن الدبلوماسية التي كانت مهمتها ترصيد نتائج الحروب والمواجهات على طاولات التفاوض اللاحقة للحروب، وجدت في الاتفاق النووي منصة جاهزة وإطاراً مكتملاً للقيام بهذه المهمة، بمثل ما هو ساحة اشتباك بنفسه، والإقرار الضمني بالحفاظ على الاتفاق دليل على شيء واحد، هو أن المواجهة الشاملة ليست على جدول أعمال أحد، خصوصاً الأميركي الذي يلوّح بها، لأن إيران لم تكن يوماً المبادرة للتصعيد.