هل يرتفع سياسيّو لبنان إلى مستوى معالجة الانهيار؟: د. وفيق إبراهيم
استمرار المشاحنات العنيفة بين القوى السياسية اللبنانية، لا يعكس اهتمامها بـ»الكارثة الوطنية» التي تضرب البلاد على مستويي الدولة والشعب.
ويكشف عن جهلها بالمخاطر التي تهدّد حتى الكيان السياسي نفسه.
فهذه شريحة سياسية نصبتها «الطائفية» ولية على اعناق اللبنانيين بدعم من الصراعات الدولية والإقليمية، فأنشأت نظاماً سياسياً فيه كل الوان الاديان والمذاهب والتكايا والملل والتحشيد بواجهة حديثة تخفي مصائبها ببذلة حديثة وربطة عنق من آخر الصيحات الايطالية والفرنسية مع إلمام عميق بكل اللغات السائدة في الاقليم من «البدوي» الى «الكرشوني».
هذه هي السياسة في لبنان منذ مطلع القرن التاسع عشر، مجرد آليات في خدمة الصراعات الخارجية يستفيد منها سياسيون محليون يمتطون ظهور مذاهبهم بتأييد من جيوش الكهنوت والمفتين والمشايخ.
وهذا هو حال بلاد الأرز حتى تاريخه ديون متراكمة وإفلاس رسميّ وعجز عن تلبية الحد الأدنى المطلوب للاستمرار حتى بفقر شديد.
وسببه سياسات اقتصادية سلطانية ابتدأت منذ ثلاثين عاماً تواكبت مع فساد سياسي إداري غير مسبوق نهبت المال العام والاملاك البحرية والبرية والجمارك والموانئ وحتى الديون والفوائد.
إنها دولة الثعالب التي تستبيح كل شيء، لكن هذه المرحلة تشبه قطاراً يحمل الكيان السياسي اللبناني وعلى متنه الطبقة السياسية والدولة والناس، فإذا سقط في الهاوية فإن الكارثة تشمل كل راكبي هذا القطار، والقطار أيضاً.
ألا يفرض هذا الوضع على هؤلاء السياسيين حماية انفسهم في ظل عجزهم عن القفز من القطار للنجاة بمفرده؟
إلا أن ما يجري من صراعات حادة وعلنية بين فئات السياسة في لبنان يكشف عن عجز النظام الطائفي من الانتقال الموقت من اطار قتال المحاور الى مستوى المعالجة الوطنية للانهيار.
فهذا المستوى يتطلب وقف الصراعات الداخلية على الحصص والأحجام والابتعاد عن التحشيد بين الطوائف والمذاهب وداخل انقساماتها.
فهل هذا ما يجري؟
الخطوة الأولى بـ «الاتفاق السياسي ذي الطبيعة الوطنية» على حكومة الدكتور حسان دياب كانت مؤشراً مقبولاً عكس حاجتين: الأولى إيجاد آلية وطنية تتعامل مع المرحلة الإفلاسية بشيء وافر من الاستقلالية عن مراكز السياسات الطائفية… والثاني مراوغة من الفئات السياسية بالابتعاد عن تصدر المشهد الحالي لعدم تحمل مسؤولية أي انهيار قد يحدث.
لمزيد من التدقيق فحكومة دياب لا يتمتع وزراؤها بعلاقات مع الخارج تمنحها شجاعة إقناع محاور الإقليم بدعم لبنان، وهذا لا ينفي ابداً ان وزراء حكومة التكنوقراط لديهم أهواء سياسية، لكنها عامة ولا تقنع قوى الخارج.
لذلك كان يفترض أن توفر القوى الداخلية في لبنان التي تنتمي الى كل محاور الإقليم ان تضع زخم علاقاتها الخارجية في خدمة الحكومة، كي تستطيع دعم خططها بالإنقاذ.
للاشارة فإن الطرف الوحيد الذي وضع ارتباطاته الإقليمية لصالح لبنان هو حزب الله، فرئيس مصلحة الشورى الإيراني علي لاريجاني الذي زار لبنان مؤخراً عرض على الدولة إنشاء معملين لإنتاج الكهرباء بقوة 24 ساعة يومياً وأدوية تغطي الحاجات الطبية مع استعداد لمعاهدات اقتصادية على كل المستويات.
لقد شكلت هذه المحاولة التجربة الأولى لدراسة ردود فعل الفئات السياسية المعادية لإيران.
هل تستطيع إقناع ارتباطاتها الخارجية بأهمية العرض الإيراني او بتأمين بديل منه على الاقل؟
النتيجة مخيبة للآمال، لكنها تعادل مستوى هذه الفئات السياسية التي لا تستطيع التحرر من كونها مجرد آليات في خدمة السياسة الخارجية حتى لو كانت في غير صالح وطنها.
بالتتابع تصاعدت الخلافات بين مكونات هذه الطبقة السياسية، بدءاً من تغريدات الوزير جنبلاط و»تذاكي» حزب القوات وعبقرية الشيخ سعد. فهؤلاء يحاولون الاستفراد بالتيار الوطني والعهد الحالي عبر تهدئة مع ثنائي أمل وحزب الله وإيقاد فتنة مع العونيين فأعادوا البلاد الى أجواء صراعات من الدرجة السياسية المنخفضة على مستوى التحشيد الشعبوي حتى أصبح الوزير جنبلاط مهتماً بالدفاع عن حاكم مصرف لبنان وسلامة تمويل الكهرباء متناسياً المازوت والمقالع وشركات الفيول، متسبباً باشتباكات في الشارع بين الموالين لـ»البيك» وانصار «التيار» الباسيلي.
كذلك فإن «القوات» اكتشفت بالصدفة العجيبة ان التيار الوطني بصدد بناء مركز رئيسي له في الجبل المطل على نهر الكلب، فاعتبرته كارثة حضارية ووطنية ونظمت من اجل ذلك تظاهرات كادت تتحوّل اشتباكات مع مؤيدي عون.
اما المستقبل فلا ينفك يحرض شارعه على التيار الحر مركزاً على ما اسماه «وزير الظل» جبران باسيل.
والطريف أن جنبلاط يقود حملة للمطالبة باستقالة الرئيس عون وتنظيم انتخابات نيابية جديدة وسط تأييد قواتي ومستقبلي قوي جداً.
وهؤلاء يعلمون ان مطلب الاستقالة وهمي ولا يفعل الا توتير الشارع ويبدو ان هذا ما يريدونه، فهل هذه هي الأجواء المؤهلة لإنتاج «دفاع وطني» يمنع الانهيارات الاقتصادية وبالتالي السياسية والوطنية؟
هذا سؤال برسم الثلاثي الذي اصبح في ليل بهيم معارضاً لسياسات هو من انشأها وطبقها منذ ثلاثين عاماً برئاسة المرحوم رفيق الحريري!
ان خطورة الاوضاع وضرورة تحشيد الخارج لدعم لبنان، تتطلب من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بما هو شخصية قيادية لها اعتبارها عند مجمل قوى الداخل، تتطلب منه دعوة القوى السياسية الاساسية الى «خلوة» لها نقطة حوار وحيدة وهي كيف ننقل الوضع من مرحلة الخلافات السياسية التحشيدية الى درجة «هدنة وطنية» حتى ولو كانت مؤقتة.
ما هو واضح حتى الآن ان الرئيس بري بتصريحاته الاخيرة ودعواته الى الالتفاف حول الحكومة يعي خطورة ما تفعله قوى التحشيد في دفع لبنان نحو الانهيار ويعمل على كبح هذا الاتجاه بحوار عميق يمنع قطار لبنان من الانزلاق نحو الهاوية.
(البناء)