تطوير الإعلام العام استثمار مربح
غالب قنديل
إضافة إلى تجهيزات واستديوهات جرى تحديثها تملك مؤسستا تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان ثروة لا يستهان بها من المباني والأراضي ومحطات البث بعضها كناية عن مساحات عقارية شاسعة كانت مخصصة لمحطات البث الإذاعي والتلفزيوني ولأعمدة الإرسال على الموجة المتوسطة وهي على الساحل في الكورة وعمشيت وفي بيروت وانصارية على ساحل الجنوب وفي قمم الباروك والكنيسة وأيطو وتملك المؤسستان مبان في العاصمة بيروت وضواحيها لمقرات الإدارة والاستديوهات وفي صلب اهتمام الطامحين الذين سعوا بقوة منذ الطائف إلى خصخصة الإعلام العام وحذفه وضع اليد على هذه العقارات واستثمارها بدلا من تحويلها إلى رصيد تستخدمه وزارة الإعلام للتطوير والتحديث إضافة إلى ما يمكنها الحصول عليه من هبات دولية أو عربية لرفد المؤسستين بقدرات تقنية وبخبرات جديدة ومواكبة للتطور التقني.
اولا قام النموذج الريعي على فكرة الخصخصة وحذف المرافق العامة ببيعها او تلزيمها للشركات الخاصة وهو عمم قاعدة ان كل ما هو عام يمثل استنزافا ماليا للخزينة المصابة بعجز دائم ومتراكم وضمن منطق الترشيق الذي حملته الوصفات المستعارة من صندوق النقد وبعثات الخبراء الأميركية والأوروبية طرحت فكرة تصفية الإعلام العام الذي حولته الممارسة السياسية إلى إعلام حكومي خلافا لما هو متعارف عليه.
كانت المفارقة أن الغرب ينصحنا بتصفية مرافقنا الإعلامية العامة بينما هو يحتفظ بإعلام عام فاعل ونشيط وتنفق عليه الحكومات مبالغ طائلة بينما تسعى لنشر محطات إعادة بثه لدينا وقد خالفت بعض الحكومات القانون اللبناني لتنشر في فضائنا البث الإذاعي الأميركي والفرنسي والبريطاني المتضمن لبرامج تنتهك الكثير من وجوه سيادتنا الوطنية ومبادئنا القانونية الناظمة للمحتوى الإعلامي وتمت تغطية وصولها وانتشارها في سمائنا بتلفيقات مناقضة للقانون وقدمها للأسف وزراء إعلام ورؤساء حكومات رغم تبنيها للغة التحريض الفتنوي داخل لبنان وترويجها لوجهة نظر العدو الصهيوني في استهداف لبنان أو في تسويقها لعصابات التكفير خلال السنوات الأخيرة.
ثانيا تمثل فكرة الدولة الوطنية والهوية الوطنية محور الوظيفة المفترضة للإعلام العام في بلد يعاني بصورة مزمنة من الانقسامات ومن التهديد الصهيوني ومن موجات متلاحقة من العدوان والاحتلال وقد اعتبر اللبنانيون غالبا إذاعتهم وتلفزيونهم الوطنيين رموزا تأتي مباشرة بعد الجيش الوطني والنشيد الوطني والعلم الوطني اللبناني أي رمزا لوحدتهم ولانتمائهم ويعني تدمير هذه الرموز استهداف معانيها في وجدان الأجيال وضمن الواقع السياسي الثقافي.
عمليا يحتاج اللبنانيون إلى إعلام عام يوفر خدمات لا تعتمدها مؤسسات الإعلام الخاصة كأولويات لأنها ليست ضمن اهتمامها التجاري الذي لا يقدم بالضرورة الحاجات الاجتماعية والثقافية ورغم نصوص القانون النافذ 382/ 94 ودفاتر الشروط النموذجية نادرا ما يتضمن الأداء الإعلامي اللبناني عملا منهجيا لتنمية الثقافة الوطنية والهوية الوطنية والتراث الوطني بل هو ارتبط غالبا بتعميم قيم الاستهلاك ونماذج الاستهلاك المعولم دون الالتفات إلى الحاجات الوطنية.
ثالثا تغيب عموما عن المشهد الإعلامي اللبناني خدمات التعليم والتوعية الصحية ومعالجة القضايا الاجتماعية والبيئية ورعاية الأنشطة الثقافية والرياضية في الأرياف والمدن المغيبة فعليا عن أثير البث التلفزيوني والإذاعي في المؤسسات التلفزيونية والإذاعية الخاصة ولم يستخدم وزراء الإعلام صلاحيتهم القانونية بإنتاج مواد إذاعية وتلفزيونية ليطلبوا بثها من مؤسسات الإعلام المرخصة وهذه الناحية من القانون طبقت احيانا وحصرا من جانب قيادة الجيش التي أرسلت موادا إعلامية تم التجاوب ببثها من سائر الوسائل المرخصة.
يتلقى المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع مئات المراجعات سنويا من الجمعيات والأندية الثقافية والكتاب والناشرين وفناني المسرح والسينما لمطالبته بمؤازرتهم في التصدي لحجبهم عن المشهد الإعلامي.
حتى الرياضة التي يتابعها جمهور عريض باتت محصورة إعلاميا في النشاط الاحترافي الذي فرضته تقاليد السوق ورساميل الاستثمار الرياضي وفروع التجارة المتفرعة عنها وقد تمت عملية خنق شاملة ومنظمة للرياضة الشعبية المحلية في الأحياء والقرى بجميع انواعها وهي خارج الاهتمام الإعلامي فقد حكم عليها السوق بالموت كما جرى في بلدان العالم الثالث الأخرى ولم يبذل أي جهد حكومي جدي لتنمية واحتضان وإحياء الرياضة الشعبية خارج سوق الاحتراف وهي من ادوات توجيه طاقة الشباب في المجتمع نحو نشاطات بناءة تنمي الروح التنافسية الايجابية ويضعها الخبراء في مقدمة سبل التصدي لآفة كالمخدرات.
رابعا اما التعامل الإعلامي مع القضايا الاجتماعية فتتحكم به نزعة الإثارة التي اجتاحت الأداء الإعلامي بدافع الاستثمار التجاري بينما يفترض تقديم رؤية إعلامية ناضجة بمعايير دقيقة وبناءة لهذا النوع من القضايا وترويج ثقافة الدفاع عن البيئة والتوجيه الزراعي والمهني عموما وكذلك الدفاع عن حقوق سكان الأرياف الخدمية والتعليمية والثقافية والصحية وتغطية انشطتهم وهي وظائف من المفترض ان يتولاها الإعلام العام.
في جميع دول العالم يعتبر الإعلام العام مسؤولا عن حفظ الذاكرة الوطنية وعن إنتاج الدراما والمصنفات الفنية التي تحفظ التراث المسرحي والموسيقي الوطني وهو يقدمه للمشاهدين والمستمعين ويضعه في تصرفهم بواسطة الشبكات الرقمية الحديثة بينما ذاكرتنا الإعلامية والثقافية والفنية متناثرة وينبغي تجميع شتاتها من بعض المؤسسات الخاصة وما تبقى خارج عمليات وضع اليد المتكرر على أرشيف تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان.
خامسا تبرز ضمن مسؤوليات الإعلام العام عملية الربط بين اللبنانيين المقيمين والمغتربين ولتحقيق ذلك اقترح المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع تأسيس باقة فضائية موحدة تضم القنوات اللبنانية الرئيسية وتنقل البث الإذاعي للمؤسسات المرخصة وتطلق من منصة التلفزيون العام وتحجز لها الحكومة حيزا للبث على الأقمار الصناعية لتحريك نشاط إعلامي واجتماعي تفاعلي بين اللبنانيين المقيمين وملايين المغتربين او ما يعرف بالانتشار اللبناني في العالم ويعرف الخبراء حجم الآفاق الاقتصادية والثقافية التي يمكن ان يفتحها هذا العمل بالتراكم وهو قد يضمن عائدات إعلانية كبيرة في ظل شح السوق المحلي كما قد يساعد على تمويل الإنتاج البرامجي والوثائقي ويفتح فرصا جديدة لتطوير الاستثمارات الوطنية ورفدها برساميل المغتربين.
في السياق ذاته اعتمدت رؤيتنا لمشروع الشبكة الرقيمة الوطنية للبث التلفزيوني على دور مركزي لتلفزيون لبنان وإذاعة لبنان بحيث تكون بعض العائدات المتاحة من مصادر تمويل الإعلام العام ولكن خطة الانتقال الرقمي علقت ومنعت من التنفيذ بتدبير من القوى المتحكمة بالسوق عبر إدامة الفوضى وبمؤازرة من شبكتها السياسية الحامية وإذا أرادت الحكومة إحياءها فإن من الممكن التعاقد على ذلك بقواعد bot بنتيجة مناقصة دولية ومنذ اشتغالنا على المشروع استنتجنا اهتماما واسعا من شركات عالمية كبرى اميركية واوروبية وصينية للفوز بالتعاقد مع لبنان على مثل هذا المشروع الاستثماري.