بقلم ناصر قنديل

إصابة سليم سعادة تختصر مأزق الحراك والمشهد السياسيّ: ناصر قنديل

– في أحسن الأحوال كان الحجر الذي أصاب رأس النائب القوميّ الدكتور سليم سعادة ينتظر أي نائب أو وزير، والغاضبون في الشارع لا يعرفون سليم سعادة ولا مَن هو ولا مَن يمثل ليفتحوا له ممراً، كالذي فتحه رفاقهم مرات عديدة لمواكب زعامات يعرفونها ويعرفون وجوه وتاريخ قادتها ويعيشون الرهبة تجاهها، أو يرغبون بتفادي غضبها أو طلب رضاها، وهؤلاء يملكون من الثقة بالنفس لحد الغرور بأنهم على حق وأنهم الشعب اللبناني وممثلوه الحقيقيّون، وأنهم محكمته وقضاؤه العادل وقد أصدروا الأحكام، وها هم ينفّذونها، فعلى رأس مَن وقع حجرهم الأول؟ على رأس سليم سعادة، النائب المنتمي للحزب الذي أشعل زعيمه أول وآخر ثورة جدّية منظمة وهادفة في تاريخ لبنان، أنطون سعاده الثائر الذي أُعدم بالرصاص، فكان الأول والوحيد مرتين، الأولى كأول وآخر رئيس حزب يشعل ثورة، والثانية كأول وآخر رئيس حزب تنفذ السلطة فيه حكم الإعدام، وسليم سعادة النائب هو الذي لم يسجّل في تاريخه الناصع ككل القوميين، أي سقطة أو ارتكاب أو صرف نفوذ، وهو الآتي ممثلاً للشعب تحت قبة المجلس بمحبة الناس لا بعصب الطوائف أو مال الرشاوى، وهو الذي دأب في كل دورة نيابية حملته إلى المجلس على مناهضة السياسات المالية التي أوصلت البلد إلى حيث هو اليوم، وحيث جاءت انتفاضة الناس تلاقي تحذيراته الدائمة من الانفجار والانهيار معاً، لكن وقوع الحجر على رأس سليم سعادة جاء رمزياً وكافياً لشرح المشهد الذي تعيش البلاد في ظله.

 

– هذا الحجر قال إن من يسمّون أنفسهم بالثوار، ومن يتحدثون عن ثورة لا يعرفون خصمهم الحقيقي، ولو أن بعضهم له أجندات يقع سليم سعادة وكل مَن يحمي ظهر المقاومة ويؤمن بوحدة الجغرافيا الطبيعية مع سورية، وكل مَن يثق بأن التكامل معها هو الردّ على أزمة هي في أحد وجوهها علامة اختناق الاقتصاد بمرض الانعزال الكيديّ عن سورية والعراق والبيئة التي ولد لبنان في قلبها بقوة التاريخ والجغرافيا، وحصيلة المزج غير الطبيعي بين الذين يعرفون خصمهم لا خصم الثورة التي يدّعون والذين لا يعرفون هو الضياع، والضياع هو الرسالة التي حملها الحجر الطائش الذي أضاع وجهة ثورته، أضاعها إلى الحد الذي يفتح صفوفه لكوادر منظمة من أحزاب تحمل مسؤولية الخراب والإفلاس والانهيار والانفجار، ولا تريد من الحراك الشعبي إلا مطية لأخذ البلد إلى الفراغ والفوضى حتى يستسلم الشعب للأجندات الأميركيّة، فيرتضي بيع نفطه وغازه، ويرتضي التخلي عن قوة مقاومته، طلباً لبعض المال الذي سيتبخّر كما تبخر ما قبله في دهاليز يعرفها هؤلاء جيداً وقد خبروا كيفية بناء لحم أكتافهم منها، وصار هؤلاء في طليعة الثوار، وصار سليم سعادة عدواً للثورة، والبعض يتشدق ويحاضر بالعنف العبثي أو المدروس لتعجيل الخراب، ويسميه ثورياً، ويدعي نسبته لشعب تفتقده الساحات منذ شهرين احتجاجاً على الغوغاء من جهة، وعلى التوظيف السياسي الخبيث من جهة أخرى.

– الحجر على رأس سليم سعادة، هو حجر على الحزب الذي اعتاد تلقي الحجارة الطائشة والخاطئة. وهو حجر يشبه حجراً آخر، أدى إلى أن يقرر الحزب عدم المشاركة في الحكومة، وإلى أن يكون خارج الحكومتين اللتين سبقتاها، لأن ليس للحزب طائفة يمثلها بل لأنه يرفض أن يلعب اللعبة الطائفية وينزه نفسه عنها ومستعدّ لدفع ضريبة ذلك جراحات وجراحات، وقد دفع دم ثمناً لهذا التنسك هو الأغلى، بشهادة مؤسس الحزب وزعيمه أنطون سعاده في محراب المواطنة وجعل شهادته مفخرة للحزب وشعلة لمواصلة مسيرته، فجريمته التي يدفع ثمنها ويتلقى الأحجار بسببها هي لا طائفيته، أحجار بعض من يفترض أنهم يسمّون أنفسهم حلفاء الحلفاء، وهو حليف مخلص للثوابت التي تجمعه بالآخرين، لكنه شريك غرم لا غنم، وشريك خيارات لا محاصصات، وشريك وطن لا طوائف ومحميّات، وبالمقابل أحجار مَن يسمّون أنفسهم ثواراً، وهو حزب الثورة الحقيقية، الثورة التي لا يوجد في البلد ولا بين صفوف من يسمّون بالثوار من يخلص لها أكثر منه أو بمستواه، فيثبت ترفعه عن العصبيات وتمسكه بالمواطنة العابرة للطوائف منهجاً وسلوكاً وخطاباً، ويقدم الدم بوجه الاحتلال والإرهاب ولا ينتظر من أحد جزاء أو شكوراً، ولأنه الحزب الأصدق والأثبت في الوطنية والمواطنة، لم يجد لنفسه مكاناً يتناسب مع حجم تمسكه بمبادئه وصدقه في ترجمتها، لا في صفوف حكومة تلقى منها حجراً وعنها حجراً آخر، ولا في صفوف “ثورة” تلقى عنها حجراً ومنها حجراً آخر.

– الحجر يكشف العراء الذي يخيّم على البلد في عاصفة ثلجية ويجعل الصورة أكثر سواداً، حيث لغة الادعاء والعبث تطغى على حسابات العقل، وحيث حسابات المصالح الضيّقة لا تتسع لمصالح الوطن، وحيث الذين يحملون مسؤولية الخراب الذي أشادوا بنيانه حجراً بحجر يحاضرون بالإصلاح، والذين يقتاتون على فتات الطائفية يتحدثون عن بناء دولة المؤسسات، وربما يحاضرون بالدولة المدنية، وحيث الذين يحملون راية الثورة تضيع بينهم الفوارق فيختلط غاضب أعمى، بمبصر لا بصيرة له، رهن نفسه لحسابات الخارج.

– رأس سليم سعاده بخير، وقلبه بدفء الاحتواء للغضب، كما حزبه، لأن الوطن يحتاج إلى رؤوس معافاة وقلوب دافئة، يفتقدها المشهد اليوم.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى