خيار الانتفاضة والمقاومة يتقدّم فلسطينياً: حسن حردان
ترجم شباب فلسطين ردّهم على جريمة القرن بتنفيذ عدة عمليات دهس وإطلاق نار وطعن استهدفت جنود العدو في القدس والضفة الغربية المحتلة، لا سيما في لواء غولاني، مما أدّى إلى جرح ١٦ جندياً صهيونياً منه، جراح اثنين منهم حرجة… وبغضّ النظر عن عدد الإصابات، تشكل هذه العمليات، التي استهدفت جميعها جنودا، تعبيراً عن بدايات الردّ الشعبي القوي ضدّ الصفقة الأميركية الصهيونية، الهادفة إلى تصفية حقوق الشعب الفلسطيني لمصلحة المستعمرين الصهاينة، الذين احتلوا أرض فلسطين بقوة الإرهاب والدعم من الاستعمار البريطاني، ومن ثم واصلوا احتلالهم بدعم وغطاء من الدولة الاستعمارية الأقوى في العالم، وهي الولايات المتحدة الأميركية، التي ورثت الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة..
على أنّ عودة العمليات الفدائية على هذا النحو من الزخم والقوة، إنما يدلّل على الأمور التالية:
أولا، إنّ هذا التصعيد في العمليات من قبل الشبان الفلسطينيين، يأتي في ظلّ اشتعال وتأجّج المواجهات الشعبية مع جنود الاحتلال في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية المحتلة.. رداً على إعلان صفقة القرن، مما يؤشر إلى تطوّر في مستوى الردّ الشعبي على الجريمة.. مرشح إلى مزيد من التصاعد…
ثانياً، يأتي التصاعد في العمليات أيضاً، بمثابة ردّ على إصرار رئيس السلطة الفلسطينية على رفض اللجوء إلى المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال، والإصرار على النضال السلمي في الردّ على مخططات العدو وجرائمه.. ولهذا فإنّ العمليات جاءت لتقول إنّ العدو لا يفهم سوى لغة المقاومة الشعبية والمسلحة.. لا سيما بعد أن تمّ تجريب خيار السلم معه والتخلي عن السلاح، في سياق تأكيد قيادة منظمة التحرير على نواياها السلمية انسجاماً مع اتفاق أوسلو.. لكن كيف كان ردّ العدو على ذلك.. لقد ردّ بزيادة إرهابه وسرقته للأرض، وإقامة المزيد من المستعمرات الصهيونية عليها.. حتى تمدّد الاستيطان والتهمَ مساحات شاسعة من مساحة الضفة الغربية، والقدس المحتلتين، وذلك في ظلّ المفاوضات.. والتنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية وأجهزة أمن الاحتلال.. هذا التنسيق الذي أدّى إلى اعتقال الكثير من المقاومين وتسليمهم لسلطات العدو، وبالتالي توفير الحماية لكيان الاحتلال، وفي ظلّ هذه المعادلة تبيّن لعموم الشعب الفلسطيني، بعد نحو ٢٥ عاماً من توقيع اتفاق أوسلو، انّ كيان العدو استخدم الاتفاق والمفاوضات لأجل تحقيق أهدافه، أيّ نصب فخاً لقيادة منظمة التحرير وجعلها تقع فيه، فجرّدها من كلّ محتواها النضالي التحرري، فيما هو استمرّ في احتلاله وقضمه للأرض الفلسطينية.. وتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.. لذلك كان من الطبيعي أن تسود حالة من السخط والاستهجان والاستنكار لتباهي محمود عباس بتنكّره للمقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال.. وكأنه يريد أن يؤكد للعدو بأنه مهما فعل من اعتداءات على الحقوق الفلسطينية، فإنه لن يواجهه إلاّ بحمل راية السلام.. معروف انّ المحتلين والمستعمرين لا يقيمون وزناً لرايات السلام، وهم بالأصل لم يقبلوا بمنظمة التحرير إلاّ بعد أن تبرأت من الكفاح المسلح وتخلت عن ميثاقها الوطني والقومي، وتحوّلت إلى منظمة وديعة مسالمة معترفة بوجود الاحتلال على الأرض الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨.. من هنا فإنّ الهجمات ضدّ جنود الاحتلال جاءت لتردّ على منطق عباس، المستمر في التمسك بالمفاوضات خياراً وحيداً رغم نتائجه المرّة والمخيّبة، ولتؤكد بأنّ شباب فلسطين قرّروا ان يردّوا، على خطة القرن، باللغة التي يفهمها العدو.. وهي لغة المقاومة..
ثالثا، أعادت العمليات تفعيل العمل المقاوم في فلسطين المحتلة، في ظلّ مناخ فلسطيني وعربي وسلامي ودولي رافض لمؤامرة القرن، ويُحمّل، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، المسؤولية عن سدّ الأبواب أمام مسار المفاوضات، وتأجيج الصراع.. الأمر الذي يوفر الشروط المواتية لتطوّر الوضع نحو احتمالات اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة، على غرار انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٢ ، التي اندلعت على اثر جولة مفاوضات كامب ديفيد، التي كشفت عن إصرار صهيوني على تهويد القدس المحتلة، وتحويلها إلى عاصمة موحدة للدولة الصهيونية، وتشريع المستعمرات في الضفة الغربية والأغوار، وشطب حق العودة للاجئين إلى أرضهم المحتلة عام ٤٨.. فاليوم ما طرحته صفقة القرن إنما هو تأكيد على التبنّي الاميركي للموقف الصهيوني، من كلّ القضايا الجوهرية المذكورة آنفاً، مضافاً إليها رفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كما تقدّم الصفقة عرضاً لإقامة دولة مقطعة الأوصال في الضفة، لا تملك حدوداً ولا سيادة على الأرض ولا السماء.. في حين يُراد أيضاً إقامة ترانسفير للتخلص من منطقة المثلث في الجليل التي تضمّ نحو ٣٠٠ ألف مواطن فلسطين، وضمّها إلى هذه شبه دويلة.. بحيث يتحرّر الكيان من عبء وجود الكثافة الفلسطينية.. لكن مع إبقاء السيادة الصهيونية على الأرض.. والحال هذه، من غير الطبيعي ان لا يكون هناك انتفاضة شعبية جديدة، لكن ما ينقصها انتقال الموقف السياسي الموحد في رفض صفقة القرن إلى موقف يترجم عملياً على الأرض بتوفير كلّ عوامل دعم قيام مثل هذه الانتفاضة لتكون انتفاضة شاملة كلّ مناطق تواجد الشعب الفلسطيني المشمولة بصفقة القرن، ان كان في الأراضي المحتلة عام ٤٨ أو ٦٧، أو في الشتات.. فالصفقة وحدت الشعب الفلسطيني في رفضها والعمل على مقاومتها وإسقاطها…
رابعا، أكدت هجمات الشبان الفلسطينيين صحة الكابوس الذي بات يطبّق على الكيان العدو، الذي تحدّث عنه المحللون الصهاينة بعد إعلان صفقة القرن. فالهجمات إنما هي نموذج مصغّر عن الانتفاضة الأوسع نطاقاً، والتي إذا ما تدحرجت، لتأخذ هذا الطابع فعلياً، فإنها ستقود بكلّ تأكيد إلى إحداث تحوّلات حقيقية في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني التحرري، لناحية اتخاذه منحى راديكالياً، يقوم على ترسيخ البعدين الشعبي والمسلح في مقاومة الاحتلال، بعد أن سقط خيار التسوية التي جرى الترويج لها سابقاً على أنها البديل الأفضل من خيار المقاومة الشعبية والمسلحة.. وهذا المنحى الراديكالي المتوقع أن تسير فيه المواجهة مع الاحتلال، يحظى بدعم ومساندة ومشاركة فصائل المقاومة الفلسطينية وإسناد محور المقاومة في المنطقة من ناحية، وعدم قدرة قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير على الوقوف في وجهه بعد ان سدّت واشنطن وتل أبيب كلّ نوافذ التسوية أمامها، من ناحية ثانية، بل أنّ قيادة السلطة سوف تحاول الاستفادة من تصاعد المواجهات الشعبية والعمليات الفدائية لمحاولة استخدامها لتعزيز موقفها السياسي، على الصعيدين العربي الرسمي، والدولي، الداعي إلى إسقاط صفقة القرن لصالح العودة إلى المفاوضات المستندة إلى قرارات الشرعية الدولية…
هذا الواقع الجديد يجعل كيان الاحتلال في حالة ارتباك وتخبّط في مواجهة عودة العمليات وتصاعد المواجهات الشعبية لقوات الاحتلال، المرشحة للتوسع في ظلّ افتقاد سلطات العدو لأيّ تعاون أمني مع السلطة الفلسطينية، التي أعلن رئيسها محمود عباس، قطع كلّ العلاقات مع كيان الاحتلال، بما فيها العلاقات الأمنية، وهو ما يجعل الأجهزة الأمنية الصهيونية تفقد عيونها الأمنية التي كانت تساعدها على ملاحقة المقاومين واعتقالهم، وبالتالي يجعلها غير قادرة على احتواء الهجمات الفدائية والحدّ من المواجهات الشعبية، وهذا الوضع الجديد يصبّ في مصلحة تعزيز المقاومة الشعبية والمسلحة، ويعيد إحياء النقاش داخل حركة فتح بشأن العودة إلى خيار المقاومة بكلّ أشكالها، بعد إعلان موت اتفاق أوسلو وسقوط الرهان على المفاوضات في تحقيق الحدّ الأدنى من المطالب الوطنية الفلسطينية.. خصوصاً أنّ قدرة حركة فتح على الاحتفاظ بتماسكها ودورها وشعبيتها باتت مرهونة بمراجعة جدية لخيار التسوية، والتماهي مع المناخي الشعبي المساند للمقاومة الشعبية والمسلحة..
(البناء)