صفقة القرن ولبنان: بشارة مرهج
بكلمة فإنّ صفقة القرن هي نقص فادح في الثقافة وفائض مخيف في العنصرية.
ثمّة إجماع أو ما يشبه الإجماع بأنّ صفقة القرن سقطت أو تكاد بسبب الرفض العام التي جوبهت به فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.
غير أنه لا يجوز النظر إلى الصفقة وكأنها حدث قائم بذاته في حين أنها استمرار صارخ لسياسة استعمارية صهيونية ثابتة وقائمة منذ زمن بعيد ومصمّمة على المضيّ في تحقيق مآربها المشبوهة في الاحتلال والاستيطان والاستلاب.
وكلّ ذلك يذكرنا بأنّ مسيرة المواجهة يجب أن تكون مستمرة لإسقاط هذه الصفقة والسياسة التي انبثقت منها ومعهما الثقافة الاستعلائية العنصرية المسؤولة عن المآسي التي تلفّ المنطقة من بابها لمحرابها.
على هذا الأساس نوجّه دعوات لكلّ المعنيين لإدراك حقيقة هذه الصفقة أو هذه السياسة التي لا يمكن التعامل معها بنفس قصير وإنما بنفس طويل معاند يخاطب روح الأمة ويتجاوب مع تطلعات المواطن الفلسطيني وحقوقه الثابتة.
ندعو القوى الفلسطينية إلى الاتحاد في موقف واحد رافض لصفقة القرن وعازم على مواجهتها بكلّ الوسائل المتاحة لكونها تشكل تهديداً وجودياً للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
كما نطالب دول الجامعة العربية باتخاذ موقف شجاع متقدّم لإحباط هذه الصفقة التي تطعن الأمة العربية في الصميم وتهوّد أراضيها وتهدّد كياناتها وتستهتر بمكانتها وتغتال مبادراتها السياسية تجاه القضية الفلسطينية.
بدوره المجتمع الدولي مطالب اليوم بالتصدّي لهذه الصفقة التي تمتهن أسس هذا المجتمع وتطيح مؤسساته الشرعية وتحتقر قراراته الدوليّة وتهدّد السلم والأمن الدوليين، وتدفع العالم نحو الفوضى والاضطراب.
وأما في لبنان فتحمّلنا صفقة القرن أعباء لا تطاق. فالصفقة مؤذية حيثما حطّت رحالها. فهي تصادر الأراضي المحتلة في مزارع شبعا وكفرشوبا وكفرحمام وبلدة الغجر، فضلاً عن احتلالات أخرى على الشريط الحدودي. وهي تعتبر سيطرتها على قسم لا يُستهان به من المياه اللبنانية حقاً مكتسباً لا جدال فيه في الوقت الذي تحرم فيه فلسطين والأردن من حقوقهما المائية المشروعة.
إلى ذلك هي تفرض علينا التخلّي جزئياً عن سيادتنا الوطنية في مياهنا في البحر المتوسط وتتلاعب مع الفريق الأميركي بحقوقنا المائية والنفطية لمنعنا من استغلال ثرواتنا الوطنية ثم تطالبنا بتحمّل تداعيات الجريمة التي ارتكبتها هي بحق الفلسطينيين عندما شرّدتهم الى لبنان تباعاً منذ عام 1948. هي تطالب بكلّ وقاحة بتوطينهم في بلادنا مع معرفتها والشريك الأميركي انّ الفلسطيني لا يرضى عن وطنه بديلاً وقد تحمّل العذاب والقهر طيلة عقود ليعود الى دياره، وفقاً لنص أممي حاكم وليس ليخضع لإرادة ثنائية مكابرة، علماً بأنّ لبنان قد أخذ عهداً على نفسه شعبياً وسياسياَ ودستورياً وميثاقياً برفض التوطين الذي كان يُطرح عليه تباعاً منذ سنوات طويلة.
لذلك تبدو المساعدة المالية المقترحة للبنان مقابل القبول بكلّ هذه الانحرافات والخيانات مجرد وصفة لإشعال فتنة داخلية تغرق الطرفين اللبناني والفلسطيني في لجة الصراع كرمى لعين مَن طعن بالسكاكين أطفال شعبنا. لكن شعبنا الفلسطيني واللبناني الذي مرّ بظروف قاسية ومؤلمة مصمّم اليوم على الاعتبار من كلّ دروس الماضي وإسقاط شبح التوطين نهائياً والعيش معاً في سلام ووئام وتكامل لتكريس حق العودة وجعله حقيقة حية تعيد الحق إلى نصابه والبيت إلى أصحابه.
وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدلّ على مدى استخفاف واستهتار الكيان الصهيوني بكلّ الدول والقضايا والقرارات الدوليّة ومؤسّساتها الشرعية كما يدلّ على مدى انحطاطه وخروجه على الأخلاقية السياسية عندما يمارس العنف والقمع لتحقيق مراميه العنصرية الاستيطانية في تهويد القدس ومقدّساتها وتحويل أرض فلسطين التاريخية إلى دولة يهودية خالصة مما يعني اليوم أو غداً تجريد سيف التهجير بوجه الفلسطينيين أينما كانوا على أرضهم سواء أكانوا في حيفا والناصرة أو القدس وغزة وبيت لحم. فالوجود الفلسطيني بعُرف هذه الصفقة هو وجود جماعات لا يحق لها بدولة ذات سيادة قابلة للحياة وإنما ينبغي لها الهجرة أو العيش تحت سلطة شرطة صهيونية تهمش وجود هذا الشعب وتصادر ممتلكاته وتمنعه من العمل وتحصي أنفاسه وتذله وتزجّ به في سجن كبير، تماماً كما كان يحصل في معتقلات نظام الأبارتيد الذي سحقه مانديلا ورفاقه في جنوب أفريقيا.
إنّ التحالف الأميركي الصهيوني ممثلاً بدونالد ترامب وبنيامين نتنياهو يعتبر أنه احتلّ العقل العربي وسمّم مجتمعه حتى الشلل بعد أن أسقط قيمه وهز معتقداته ونجح في تقويض دوله القطرية ونشر ثقافة الخضوع والخنوع والتشبّه بالمحتلّ.
وانطلاقاً من حالة الاحتراب والتناحر التي نجح في تعميمها في المنطقة اعتبر هذا الثنائي، وهو يشهد أمامه مظاهر التهافت والخضوع، أنه لم تعد ثمة حاجة للتفاوض مع الفلسطينيين والعرب او التجاوب معهم في الحدّ الأدنى حفظاً لماء الوجوه، بل شعر أنّ الوقت قد حان للفرض والإملاء وتوجيه الضربة القاضية سواء بالسياسة أو بالنار.
أما المال فلن يقدّمه الطرف المستفيد وإنما الطرف المتضرر وهو الطرف العربي الذي عليه أن يتدبّر أمره دون أن ينسى أيضاً حصة السماسرة الذين أطلقوا الصفقة وتابعوا فصولها ورتبوا أوراقها وهيأوا الأجواء لقبولها. وإذ يدفعون ما يترتب عليهم أن يهللوا لهذا التكليف الذي جعلهم يموّلون صعود الدولة الصهيونية إلى مرحلة جديدة تمكّنها من ممارسة دورها في التسلط على المنطقة العربية بأسرها.
إنّ الامبريالية التي تعيش اليوم ذروة غطرستها تريد أن تجعل من تصفية القضية الفلسطينية نموذجاً للتعامل مع بقية الشعوب. وبهذا التوجه الذي يفتقر للعقل والأخلاق والمنطق تحفر هذه الأمبريالية قبرها بيدها وقد اعتراها الضعف من داخل وعصفت بها التناقضات من كلّ صوب، فيما هي تحاول تصدير أزماتها إلى آخرين يشعرون يوماً بعد يوم أن لا بدّ من التصدي لهذا العدوان الخطير على الشعوب وحقوقها في الوجود وتقرير المصير.
إنّ صفقة القرن على خطورتها لم تعد تخيف شعوب المنطقة التي اعتنقت ثقافة المقاومة وصمّمت على التشبّث بحريتها وأقسمت على حماية وجودها واستقلالها بوجه كلّ محتلّ ودخيل.
(البناء)