ماذا قدمت الثورة الإيرانية للعرب؟
غالب قنديل
خلال أربعة عقود من تحدي منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في المنطقة قدمت الثورة الإيرانية نموذجا تحرريا قويا يؤكد واقعية الإطاحة بالهيمنة وإمكانية إعادة بناء القدرات الوطنية وهي أثبتت ان الأمر رهن بتوفر الإرادة السياسية والشعبية وبوجود القيادة التحررية الموثوقة التي تترسخ الثقة الشعبية بجدارتها وبالتزامها بقوة الوقائع في سياق الصراع ضد الاستعمار وعملائه.
أولا قدمت إيران الثورة نموذجا للتحرر من الهيمنة في جذرية ما أنجزته الثورة على صعيد ضرب ركائز الوجود الاستعماري السياسي والاقتصادي والاستخباراتي داخل البلاد وهو ما أفسح المجال امام الخطوات التحررية الواسعة في بناء وطني جديد للاقتصاد الإيراني بالقدرات الذاتية وبالشراكات الندية وشكلت التعبئة الواسعة لقدرات الشعب ولقطاعاته الشابة في الجامعات قاعدة البناء الجديد وهي شكلت نواة التقدم في الثورة الاقتصادية والعلمية زراعيا وصناعيا وتقنيا.
لقد كان الطموح الثوري لبناء دولة مستقلة قوية وقادرة يلاقي الطموح الحضاري للشعب الإيراني والموقع الهام تاريخيا للبلاد ودورها وكان في وعي القيادة الإيرانية والنخب الثورية ان بناء دولة تليق بمجد إيران ومكانتها مرتبط بالتحرر من الهيمنة وبالنجاح في تحدي الهيمنة الغربية الصهيونية في المنطقة وحيث يمثل الكيان الاستيطاني الصهيونية قاعدة متقدمة للاستعمار العالمي وهذا ما شكل مصدر اعتبار فلسطين ركيزة حاسمة ورئيسية في الوعي التحرري الإيراني الذي تكون قبل انتصار الثورة بنظرية الغدة السرطانية التي اطلقها الإمام الراحل آية الله الخميني وهو ماعبرت عنه عملية إغلاق السفارة الصهيونية ورفع العلم الفلسطيني فوق المبنى وأسس لتعبئة شعبية ولنهج سياسي متواصل في دعم فكرة تحرير فلسطين واحتضان فصائل المقاومة الفلسطينية.
ثانيا شكل النموذج الإيراني في البناء والاعتماد على الذات والتقدم الاقتصادي والتكنولوجي عبرة حية للرأي العام العربي حول علاقة التنمية بالتحرر من الهيمنة الغربية وكيف يمكن توظيف الريوع النفطية في تنمية وتطوير الإنتاج الوطني الصناعي والزراعي وتحقيق أهداف وطنية كبرى اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا.
ليس الموضوع تفصيلا إداريا يرتبط فحسب بجداول توزيع العائدات النفطية ووجوه إنفاقها وبالمقارنة مع سائر بلدان النفط العربية فقد استطاعت إيران بفعل إرادتها التحررية ومن خلال خطط الاعتماد على القدرات الوطنية للشعب الإيراني والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي وعبر العناية بنظم التعليم والبحث العلمي وبخطط امتلاك التكنولوجيا ان تحقق اكثر من قفزة اقتصادية وعلمية مع تخصيصها لقسم رئيسي من الموارد المالية لبناء منظومات ردع دفاعية قادرة على التصدي للتهديد الدائم الذي صاحب انتصار الثورة من أيامه الأولى وقد بلغت القدرات الدفاعية الإيرانية خلال أربعين عاما مستويات متقدمة من الفاعلية بفعل الخبرات الوطنية المكتسبة وتطور الصناعات الحربية الوطنية وامتلاك الخبرات التكنولوجية واكتسابها من حلفاء موثوقين في معسكر التصدي للهيمنة الاستعمارية في مقدمهم الصين وكوريا الديمقراطية.
ثالثا استطاعت إيران الثورة من خلال دعمها واحتضانها لحركات المقاومة في المنطقة وعبر تحالفها الوثيق مع الجمهورية العربية السورية أن تقيم جسور الأخوة العربية الإيرانية التي تعمدت بدماء قادة وجنود إيرانيين استشهدوا في معارك الدفاع عن الشرق وفي التصدي للخطط الاستعمارية وحروب الوكالة في المنطقة وكذلك قدمت إيران في هذه العقود تضحيات جزيلة في سبيل دعم العمل الفدائي الفلسطيني الذي تعاظمت إمكاناته وبات يمتلك قوة تخيف العدو الصهيوني وتقلب الكثير من قواعد الصراع العربي الصهيوني.
قدم التحالف السوري الإيراني الثابت والمتطور خلال أربعين عاما صورة نموذجية للشراكة العربية الإيرانية التي تؤمن بها إيران وقاعدتها التحرر من الهيمنة كقضية مركزية والالتزام بقضية فلسطين وتبني خيار المقاومة وهذه الأبعاد التي ينظر إليها اليوم كبديهيات بعد تنامي محور المقاومة الذي أسسته سورية وإيران فور انتصار الثورة لم تكن قائمة قبل تلك الشراكة التي انطلقت من دعم المقاومة اللبنانية واحتضانها حتى تمكينها من اقتلاع الغزاة الصهاينة من أرض الجنوب اللبناني ودعم المقاومة الفلسطينية وبذلك تأسست معادلات إقليمية جديدة رغم التردي والخراب المتواصل في الموقف العربي الرسمي الذي بلغ ذروة خطيرة مع انخراط الحكومات العربية التابعة ومؤسسة الجامعة العربية في خطة تدمير سورية التي رسمها المخططون الغربيون والصهاينة وبصلابة الإرادة والثقة المتبادلة امكن لهذا التحالف ان يتصدى للتحديات وأن يتوسع وينمو وهو اليوم محور ممتد من صنعاء إلى بيروت وهذا ما يشكل بعد أربعين عاما من الجهود والتضحيات والمعارك تحولا نوعيا في واقع المنطقة وتوازناتها.
رابعا بالاستناد إلى القدرات الإيرانية المتعاظمة والخبرات الإيرانية تتاح فرص جدية لبلدان محور الاستقلال والتحرر لبلورة شراكات تكاملية يتطلب التقدم إليها تعزيز البناء الاقتصادي المشترك للمحور وتحويله إلى قوة إقليمية متكاملة وهذا ما يستدعي تذليل عقبات سياسية واقتصادية في بلداننا ولكنه يرتبط بتحقيق الهدف التاريخي الذي اعلنه قائد الثورة السيد علي الخامنئي عنوانا للرد على الجريمة الأميركية باغتيال الفريق قاسم سليماني وهو طرد القوات الأميركية من المنطقة وخصوصا من العراق وسورية وما بعد ذلك سيدشن الشرق مرحلة جديدة من البناء والتشابك والشراكة ليتحول إلى قلعة تحررية عربية إيرانية متماسكة وجبارة.
إن تحقيق تلك الغاية العظيمة يستدعي طرد القوات الأميركية وتعديلا شاملا للتوازنات السياسية الداخلية في لبنان والعراق وهو يرتبط حكما باستكمال تحرير الأرض السورية من فلول العمالة والإرهاب وإنهاء العدوان التركي ويمكن بذلك التقدم نحو شراكات قارية ضخمة تطمح إليها وتفكر فيها دمشق وطهران من سنوات لتطوير الشراكات المشرقية العملاقة في الإنتاج والتسويق واستثمار الموارد.