“صفقة القرن” إلى السقوط؟ وفلسطين لن تُشطَب…: العميد د. أمين محمد حطيط
“رؤية ترامب للسلام”، والمصطلح على تسميتها “صفقة القرن” التي أعلن عنها استعراضياً في الأسبوع الماضي، لم تكن مفاجئة بذاتها، فقد كانت في معانيها الإجمالية وبعض تفاصيلها الجزئية سرّبت لأكثر من جهة ومرجع وكانت في البعض الآخر من الجزئيات قد وضعت موضع التنفيذ الأحادي الجانب دون الاكتراث بإرادة او مشيئة الآخرين.
لقد وصفت الخطة بالصفقة أيّ الاتفاق الذي يستوجب طرفين فأكثر لإبرامه، لكنها جاءت عملاً بإرادة أميركية منفردة تلبّي رغبات “إسرائيل” وجشعها للأرض والثروة، أما الفلسطينيّون الطرف المفترض أو المظنون وجوده في الصفقة قبل أيّ أحد آخر أو لبنان والأردن وسورية ومصر، فلم يكن أحد منهم فيها ولم يتوقف ترامب في فعله على رأي أحد منهم، ولهذا نقول إنّ الصفقة “عمل بإرادة منفردة” تلزمه القوة المناسبة لوضعه موضع التنفيذ المستقرّ فهل توجد تلك القوة التنفيذية له؟
قبل البحث في وجود تلك القوة أو عدمه وفي كيفية فرض رؤية ترامب على المنطقة لتحقيق كذبة السلام لا بدّ من أن نشير الى عناصر الخطر الرئيسية التي تضمّنتها هذه الخطة على فلسطين وأهلها ومحيطها، وهي كلها في الواقع والحقيقة خطرة على حقوق الفلسطينيين ودول الجوار وكلّ العرب والمسلمين. فما هي تلك العناصر؟
العنصر الأول: تنقض الرؤية حق الفلسطينيين بدولة، حسب القرار 181 وكلّ قرارات الشرعيّة الدوليّة المؤكدة عليه وتحرم الرؤية الترامبية الفلسطينيين من حقهم حتى بشبه دولة او إدارة ذاتية دائمة حقيقية، وتترك لهم بشكل مؤقت ممارسة وجود مدني في جزر متناثرة داخل فلسطين التاريخيّة بما فيها كلّ القدس التي وضعت، حسب الرؤية كلها وكلّ فلسطين من البحر إلى النهر تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية براً وجواً وأعماقاً وبحراً تكريساً لمقولة “فلسطين وطن قومي لليهود” أما الحقوق السياسية والعسكرية والاقتصادية للفلسطينيّين فهي محجوبة عنهم إلا ما تسمح به “إسرائيل اليهودية”.
العنصر الثاني: تشطب الرؤية حق اللاجئين في العودة الى ديارهم التي هُجّروا منها عند اغتصاب فلسطين، وتخيّرهم خلافاً للقرار 194 بين 3 خيارات: العودة الى فلسطين الجديدة حيث الوجود المدني فقط، كما ذكرنا بشرط الموافقة المسبقة لـ”إسرائيل” (وهي لن تحصل خاصة لمن هم في لبنان وسورية) أو التوطين في بلاد إقامتهم حالياً (وهو مرفوض منها) او الانتقال بمعدل 5 آلاف سنوياً وعلى عشر سنوات الى بلدان إسلامية (إذا قبلتهم). خيارات كلها غير عملية وغير قابلة للتنفيذ ما يعني أنّ 7 ملايين فلسطيني في الخارج يعيشون اليوم على أمل العودة سيسلب منهم حتى هذا الأمل ولا يتغيّر وضعهم القانوني شيئاً ما يعني انّ الخطة تشكل إعداماً سياسياً لهؤلاء الـ 7 ملايين، فضلاً عن إرهاق ديمغرافي للدول التي تستضيفهم.
العنصر الثالث: وضعت الرؤية خطة مرحلية لإجراء الفرز القومي والعرقي في “إسرائيل” وإخراج الفلسطينيين من الأرض التي احتلتها في العام 1948، وإذا عطفت هذه المسألة على ما تقدّم من جعل وجود الفلسطينيين في الضفة وجوداً مدنياً مؤقتاً قد ينتهي بعد أربع سنوات، لوقفنا على مشهد مستقبليّ يظهر بأنّ الخطة رسمت خريطة طريق الى فلسطين من دون عرب وإعدام الوجود المدنيّ والسياسيّ للفلسطينيين في فلسطين يعني أنّ الرؤية هي خطة إبادة سياسية لشعب كامل عملاً بمقولة “أرض بلا شعب“.
العنصر الرابع: تقتطع الرؤية أرضاً من لبنان (مزارع شبعا) وسورية (الجولان) ومصر (من سيناء من أجل توسيع غزة للتوطين) وتسقط الحدود الدولية البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة وتجعلها مادة لتفاوض مستقبلي لإعادة ترسيم تلك الحدود التي هي اليوم حدوداً دولية نهائية تريد “إسرائيل” تجاوزها بما يتوافق مع أطماعها في الأرض والماء والثروة النفطية براً وبحراً.
العنصر الخامس: تجعل ممارسة الحقوق الدينيّة في الأماكن المقدسة في القدس للمسلمين والمسيحيين رهن إرادة “إسرائيل” وسيطرتها، فبعد تقسيم الأقصى (أولى القبلتين للمسلمين) زماناً ومكاناً أيّ تخصيص اليهود بأمكنة فيه يمنع على المسلمين دخولها وأزمنة يكون لليهود وحدهم حق الصلاة فيه؛ ويمنع المسلمون من الاقتراب منه خلالها. وضعت شروط الدخول الى الأقصى بإشراف عسكري وأمني “إسرائيلي” وأغفلت حقوق المسيحيين كلياً في أماكن العبادة المسيحية في القدس.
تؤكد هذه العناصر بأنّ رؤية ترامب المزعومة بأنها للسلام ليست إلا إعلان حرب على حقوق الجميع لمصلحة “إسرائيل” وحدها رؤية تشكل حلقة من حلقات تنفيذ وعد بلفور، وقد تعتبر الحلقة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة، والأرجح أنها ما قبل الأخيرة لأنّ هذه الحلقة ستكون إذا نجحت متبوعة بخطة تالية تكون الأخيرة تفضي الى تهجير من تبقى من فلسطينيين في الأرض المحتلة العام 1948 (ترانسفير) والتضييق على من تبقى في الضفة عبر خنقهم بالمستعمرات. فهل تنجح الخطة؟ وهل يسود السلام الأميركي على المنطقة بموجبها؟
في المبادئ العامة لا ينفذ حكم أو قرار أو رؤية إلا عبر أحد طريقين: الرضائية أو القسريّة والإكراه بالقوة. وفي الواقع الحاضر نجد انّ المعنيين بالشأن والذين ينبغي ان يشكلوا الطرف الآخر في الصفقة والذين تبقى الصفقة بدونهم عملاً بإرادة منفردة، إنّ هؤلاء جميعاً يرفضون الخطة. فالفلسطينيون بإجماعهم رفضوها (بما فيهم من جاء باتفاق اوسلو المشؤوم والذي كان إحدى المحطات التمهيدية لإطلاق مثل هذه الخطة الإجرامية)، كما رفضت الخطة من جميع دول الجوار الفلسطيني (لبنان وسورية والأردن ومصر) وأيضاً كان رفض الجامعة العربية وسيكون الرفض أيضاً من منظمة التعاون الإسلامي. ما يعني أنّ التنفيذ الرضائي متعذر، وسيبقى متعذراً طالما لم يجد ترامب شريكاً فلسطينياً أو عربياً فاعلاً ومؤثراً يسير معه في التنفيذ.
أما في التنفيذ القسري، فيعوّل حسب القواعد العامة على قوة الشرعية والقانون أو القوة المادية العسكرية. وهنا نرى انعدام القوة الشرعية والقانونية لأنّ الخطة وضعت أصلاً خلافاً لها وأطاحت بكلّ القرارات الدولية الناظمة للمسألة (القرارات 181 ، 194 ، 242 ، 338 ، 2334) ولا نتوقع في ظلّ الرفض الدولي أن تستطيع أميركا الحصول من مجلس الأمن او الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قرار يدعم هذه الخطة الظالمة. وبعد ذلك يبقى البحث عن الإكراه المادي الميداني، فهل لدى أميركا و”إسرائيل” النيّة والإمكانية على ذلك؟
لو كنا في العام 1917 او العام 1948، او باختصار في زمن ما قبل العام 2000، لكنا قلنا بأنّ أميركا ومعها “إسرائيل” قادرة بالقوة العسكرية على تنفيذ رؤية ترامب والإطاحة بكلّ مَن يخالفها، لكن الزمن اليوم غير الزمن، حيث توجد قوة عسكرية دفاعية تحول دون ذلك، قوة تبدأ بالمقاومة الفلسطينية في غزة والتي نأمل ونتوقع أن تتمدّد وتنمو في الضفة الغربية، ومعها محور المقاومة الممتدّ من جنوب لبنان الى حدود أفغانستان مروراً بسورية والعراق وإيران، وهو محور واجه حرباً كونية عليه قادتها أميركا ضدّه لمدة عشر سنوات وفشلت، وباتت تتجنّب المواجهة العسكرية معه كما حصل بعد الصفعة في عين الأسد في العراق التي سبقت جريمة الصفقة في واشنطن. وتبقى الإشارة الى الحرب الاقتصاديّة وهي من وسائل الإكراه أيضاً فإنّ تحمّل أعباءها أمر ممكن إذا قيست تلك الأعباء بحجم مخاطر الخطة الإجرامية.
لذلك نقول، في السابق، كان الغرب الانكلوساكسوصهيوني يخطط ويفرض خططه علينا وتكون إرادته نافذة، أما اليوم وفي ظلّ وضوح الرؤية وإرادة المواجهة الدفاعية وقدرات القتال الدفاعي، تغيّرت الأمور وباتوا يخططون، وبتنا نجهض خططهم، ولن تكون خطة ترامب قابلة للتنفيذ ولن تشطب فلسطين بجرّة قلم ترامب، كما أرادت الصهيونية العالمية وحماتها ويبقى على المعنيين بشأنها والمطالبين بتحريرها العمل على خطين: خط الشرعية الدولية وهو أمر يسير العمل عليه، وخط المقاومة المسلحة التي هي في الأصل والأساس ما سينقذ فلسطين خلافاً لأقوال خرقاء جرّبت التنازل ووصلت بعد أوسلو إلى مشروع شطب فلسطين كلها برؤية ترامب الإجرامية.
(البناء)