فرصة صفقة القرن لوحدة اللبنانيين: ناصر قنديل
– عانى لبنان خلال قرن كامل من أولوية الخيارات الإقليمية والخارجية على الخيارات والشؤون الداخلية في رسم الاصطفاف السياسي، بخلاف كل دول العالم التي توحّدها رؤية مشتركة في المفاصل الكبرى لرسم المصالح الوطنية تحتوي اصطفافات داخلية في مواقع متباينة؛ بينما لبنان منذ انقسام اللبنانيين حول الانضمام لدولة الملك فيصل في دمشق، كما قالت مؤتمرات الساحل، أو الاحتفال بلبنان الكبير كما كان خيار زعماء جبل لبنان، منقسم حول الخيارات الإقليمية، بين الدخول في حلف بغداد أو الوقوف مع جمال عبد الناصر، وبين الوقوف مع المقاومة الفلسطينية أو اعتبارها خطراً على السيادة اللبنانية، حتى عندما وقع الاحتلال الإسرائيلي انقسم حوله اللبنانيون، وخلال مسيرة المقاومة تواصل الانقسام ولو تغيّرت الشعارات، وبعد التحرير تغيّرت مرة أخرى الشعارات وتعمق الانقسام، وبقي لبنان عندما ينتصر يشعر بعض الداخل بمرارة الهزيمة، وعندما يسقط صريعاً يشعر بعض الداخل بنشوة النصر، ودائماً كانت القضايا التي تتشكّل منها السياسة في أي بلد تصير ثانوية في لبنان بسبب هذا التشوّه البنيويّ.
– ما حملته صفقة القرن من تحدٍّ وجودي للبنان واللبنانيين، أظهر جملة إشارات لفرصة لبنانية تحمل بعض الأمل بتغير قواعد الاشتباك بين القوى السياسية الوازنة، فتلاقى موقف رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة مع مواقف أطراف الغالبية وأغلب المعارضة. ويجب النظر بتمعن في موقف تيار المستقبل بصفته القوة الوازنة في الجبهة المقابلة للحكومة، الذي عبر عن تشخيص مخاطر الصفقة وحتميّة مواجهتها، والتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، ودعم نضاله لإسقاط الصفقة، والتمسك بحق العودة ورفض التوطين، والذي ختم بالقول إن الصفقة لن تمرّ، وبالتوازي شهدت ساحات الحراك رغم جفاف الحشود الذي تعانيه منذ أسابيع حركة لافتة لمجموعات خرجت بهتافات تضامنيّة مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وهي تهتف “تسقط تسقط إسرائيل”، والحراك هو الضفة الثانية التي يهمّ رصد حركتها لرسم المشهد السياسي المقبل.
– بين الشعور بالخوف والقلق من أن تشكل الانقسامات اللبنانية من لبنان الخاصرة الرخوة التي تتلقى كل العائدات السلبية للتحولات الإقليمية، والخوف من ضغوط مالية لفرض تحوّلات بنيوية تفجر الداخل اللبناني بعنوان التوطين، وتجعل الطوائف في حال استنفار ديمغرافي وجودي تتهم بعضها بعضاً بالتواطؤ والتآمر، والقلق من استغلال الوضع المالي لفرض إملاءات لتعديل الحدود الدولية للبنان التي تجاهلتها خرائط صفقة القرن ودعت لتفاوض على ترسيمها، وفي قلبها ثروات النفط والغاز، تتوافر فرصة هامة لتصويب مسار السياسة في لبنان المختلّ منذ قرن، فيلتقي اللبنانيون لحماية المصالح العليا لدولتهم ووطنهم، ويحفظون حق الاختلاف على شؤون السياسة المحلية، كتعبير عن استقامة فهمهم للسياسة بعد طول غياب، لأن لا أحد يدعو للربط بين المسؤوليّة الوطنية عن موقف جامع بوجه صفقة القرن ومخاطرها، وبين الخلافات السياسيّة الداخلية المشروعة، والتي يترتب على فصلها عن مساعي التوظيف في الاصطفاف التصادمي على ضفاف السياسات الخارجية، وضعها في إطارها الطبيعي وإدارتها تحت سقف الأمن الوطني بمفهومه الكبير، القائم على قواعد اللعبة الديمقراطية واحترام أصولها.
– الاختبار الحقيقي لصدقيّة هذه الفرصة يتمثل بعدم الاكتفاء بموقف يتيم يليه صمت القبور، بل بقدرة الأطراف السياسية على التصرف كجبهة موحّدة في التصدي للمخاطر التي تستهدف لبنان، وقد باتت محدقة وواضحة المصدر والأهداف، والفصل بينها وبين الخلاف السياسي الداخلي، الذي يمكن إدارته على نار هادئة إذا توحّدت الخطوات التي تعمل جدياً على مواجهة الخطر الداهم. وهذا هو المفهوم الديمقراطي العميق لتداول السلطة الذي لا يعني في غير لبنان إخلالاً بالثوابت الوطنية وتغييراً في التوجهات من المسائل الوطنية، وإذا اجتاز لبنان هذا الامتحان بنجاح سيفتح الباب لتداول السلطة بطريقة سلسة في استحقاقات مقبلة.