الفساد أم الهيمنة اولا ؟
غالب قنديل
تقدم الكلام عن مكافحة الفساد جميع الخطب السياسية اللبنانية في سائر المراحل منذ عهد الاستقلال عام 1943 وتحول الإصلاح الإداري عبر العهود السياسية المتعاقبة إلى هدف تكرره البيانات الوزارية وتعقد حوله الجلسات الحكومية المتعاقبة التي سميت بالمجامع الوزارية في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية.
أولا تكررت حملات مكافحة الفساد طيلة ما يزيد على الستين عاما من حياة النظام اللبناني منذ اواخر عهد الرئيس الراحل بشارة الخوري ومن تبعوه في سدة الرئاسة الأولى وفي كل مرحلة تشهد فيها البلاد انقساما سياسيا داخليا وصراعا على الخيارات الكبرى المتعلقة بالصراع الممتد على هوية المنطقة بين محور التحرر الوطني والاستقلال ومحور الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية يشكل ملف الفساد الداخلي عنصرا أساسيا في جداول الأعمال وفي تعبيرات النقاش اللبناني الداخلي.
استخدمت حملات مكافحة الفساد أداة سياسية وظفتها الحكومات والعهود لفرض تغييرات هيكلية تناسب التبدل في خارطة القوى السياسية المحلية المكونة للسلطة وفي العهد الشهابي وحده ارتبط تبديل الأسماء والوجوه والمناصب بإعادة هيكلة الإدارة اللبنانية ومأسستها ومحاولة تحديثها وكان التفاهم الأميركي الناصري في المنطقة هو قوة الدفع التي مكنت الرئيس الراحل فؤاد شهاب من فرض تغييرات هيكلية في النظام السياسي والإدارة وشكل انتخابه في حينه تعبيرا عن المساكنة بين المحورين الكبيرين على صعيد المنطقة.
ثانيا الفساد هو ظاهرة ملازمة لجميع الأنظمة السياسية منذ القدم وهو نتيجة لواقع استغلال السلطة والوظيفة العامة في التربح الشخصي والجماعي على حساب الصالح العام وهذا ما هو قائم أصلا في قلب الدول الغربية الصناعية الكبرى التي تحاضر على شعوب العالم الثالث بالحوكمة وتستعمل حملات مكافحة الفساد لصرف الانتباه عن هيمنتها اللصوصية ونهبها لثروات تلك البلدان.
إن تشريع الأميركيين في نظامهم لمبدأ وجود مجموعات الضغط داخل مجلسي الكونغرس هو فساد منظم تتمول به حملات المرشحين إلى مجلسي النواب والشيوخ وإلى رئاسة الولايات المتحدة وحيث تضع مجموعات الضغط ثقلها لحساب كارتلات السلاح والنفط والأدوية والمخدرات والبنوك ولحساب الحركة الصهيونية التي تدير أوسع اللوبيات نفوذا في واشنطن.
ثالثا الفساد اللبناني عالم ثالثي وناتج عن التربح من المناصب الحكومية والإدارية في قنوات توزيع الريوع وتداولها لأنه لم تقم في لبنان دولة وطنية مستقلة وضربت القطاعات الإنتاجية الضعيفة أصلا بحكم طغيان وتضخم اقتصاد الخدمات بل إن النموذج الريعي التابع بحكم بنيته كان على الدوام قرين الهيمنة الغربية والفساد الداخلي الذي تفاوتت نسبة فداحته بين مرحلة واخرى.
مساكنة المحورين في شراكات السلطة اللبنانية كانت تكيفا فعليا من جانب القوى الوطنية والتحررية مع النموذج الريعي ولم ترتبط بأي محاولات جدية لتغيير الاتجاه من الريع إلى الإنتاج وإقامة شراكة فعلية اقتصاديا مع سورية منذ حل المصالح المشتركة التي أقامها الانتداب الفرنسي بين البلدين.
رابعا كانت التبريرات الوطنية لتاخير التعامل مع تلك المعضلة التكوينية في النظام اللبناني هي الانصراف إلى مقاومة الاحتلال الصهيوني ومجابهة التهديدات العدوانية المتواصلة وهذا ما استمر فعلا منذ انطلاق الشراكة السورية الأميركية السعودية في لبنان خلال مرحلتيها اللتين باعدهما الاحتلال الصهيوني عام 1982 حتى مطلع التسعينيات.
انطلقت تلك الشراكة مع انتخاب الرئيس الراحل الياس سركيس بعد حرب السنتين ثم أعيد إنتاجها في اتفاق الطائف واستمرت حتى العام 2005 ولم توظف دمشق ثقلها السياسي والعسكري خلال المرحلتين لمحاولة تعديل البنية الاقتصادية اللبنانية وتحاشت التصادم مع قوى سياسية ومالية لبنانية راسخة الجذور مرتبطة تقليديا بالغرب ولم تسعى لنقل نموذجها الاقتصادي الانتاجي والمكتفي ذاتيا إلى لبنان كما توقع كثيرون وكما رددت الحملات المعادية لسورية منذ دخول قواتها إلى لبنان عام 1976.
خامسا الفساد الملازم للنظام الريعي في لبنان حظي برعاية الغرب دائما وكالعادة تقوم الاستراتيجية الأميركية باستعماله في الذهاب والإياب فهو وسيلة لاستمالة الأتباع بالعمولات وبالمنافع الخاصة وغير المشروعة وهو وسيلة لمحاربة الخصوم وطمس اولوية إنهاء الهيمنة في وعي الشعوب وقواها السياسية المحلية.
إن مجابهة الفساد في العالم الثالث رهن بقيام الدول الوطنية والتحرر من الهيمنة وبناء اقتصاد منتج على انقاض الريعية قرينة السمسرة والاستتباع الأهلي في عصبيات تقاسم الريوع والفساد يستدعي عملية مواجهة مستمرة وبناء قواعد ثابتة تمنع قدر المستطاع عمليا تداخل المصالح الخاصة مع المسؤوليات والوظائف العامة ويقظة شعبية دائمة تحقق الرقابة الأفعل على البيرقراطية الإدارية للدول.
مفتاح حل مشكل لبنان هو التحرر من الهيمنة والتوجه شرقا وتبني مشروع شامل لإعادة البناء الوطني وعلى هذه القاعدة يمكن التطلع إلى آليات جديدة لتكوين السلطة السياسية وهيكلية الإدارة العامة بما يتكفل بمحاربة مستمرة لجميع مظاهر الفساد.