ما لم يكن في الحساب الأميركي والخليجي: ناصر قنديل
– خلال الشهور التي سبقت وتبعت الانتخابات النيابية في العراق كان الرهان السياسي الوحيد الذي يملك قدراً من القيمة والتأثير، وتجتمع حوله واشنطن وعواصم الخليج، هو انتقال السيد مقتدى الصدر إلى موقع سياسي متمايز عن القوى التي التقت في الحشد الشعبي وتمثل مشروع المقاومة وتربطها علاقة تعاون وتحالف مع قوى المقاومة في المنطقة، وخصوصاً مع إيران وحزب الله، وترجمت موقفها بشراكة ميدانية قدمت خلالها الدماء في معارك الدفاع عن سورية. ومصدر الثقة بقيمة هذا الرهان وأهميته ينبع من كون السيد مقتدى الصدر يشكل نموذجاً فريداً في العراق، فهو يرث زعامة شعبية يلتقي تحت عباءتها فقراء بغداد منذ أيام والده السيد محمد صادق الصدر. وهو تميّز عن أقرانه من زعماء الشيعة الذين دخلوا العملية السياسية في ظل الاحتلال، أنه لم يأت مثلهم من المنفى بل كان في العراق، وأنه رفض هذه المشاركة، ودعا علناً لمقاومة الاحتلال الأميركي، وقد وفّرت له هذه المواقف، وتراكمها، خصوصاً أثناء معارك الفلوجة، وأثناء احتجاجات الأنبار بوجه حكومة نور المالكي، رصيداً عابراً للطوائف. فهو يملك لدى عامة الناس تقديراً عالياً، ويصعب على القادة المناوئين للمقاومة اتهامه بالشراكة بالعملية السياسية والطعن ولو شكلا بوطنيته، كما يصعب عليهم اتهامه بالطائفية، وخصوصاً يصعب عليهم اتهامه بتمثيل مجرد امتداد لإيران.
– تمايز السيد مقتدى الصدر عن إيران وإطلاقه لمواقف انتقادية لسياساتها مراراً، وخلافه الجذري مع الرئيس نور المالكي، الذي جعل الأميركيون والخليجيون من العداء له خطاً فاصلاً بين معسكر خصومهم ومعسكر حلفائهم. وهذا التمايز المزدوج شجع الأميركيين والخليجيين على الاستثمار في مشروع تعاون بينه وبين حلفائهم المباشرين، من كردستان إلى محافظات الوسط، وبنوا على هذا التعاون أحلاماً بتحقيق تحول تاريخي في العراق، خصوصاً أن الرهان على تموضع السيد مقتدى خارج حلفاء إيران وقوى المقاومة، فتح شهيتهم على رهان مشابه تجاه مرجعية النجف، بالحديث عن مرجعية عربية تتنافس مع مرجعية قم غير العربية. وساهمت وسائل الإعلام التي يديرها الأميركيون والخليجيون بصناعة هالة ربطت المواقف التي تستحق صفة العراقية الصافية لتلك التي تصدر عن السيد مقتدى الصدر.
– خلال تشكيل الحكومة المستقيلة والتي ترأسها الدكتور عادل عبد المهدي، تنافس تكتل سائرون الذي يدعمه الصدر مع تكتل البناء الذي يمثل قوى المقاومة على تسمية رئيس الحكومة، ولكن في نهاية الطريق تم التفاهم بينهما على تسمية عبد المهدي، وروّج خصوم إيران والمقاومة أن استجابة الصدر جاءت تحت التهديد، وبدا هذا التبرير منافياً للحقيقة التي يعرفها كل من يعرف الصدر ويعرف صلابته وعناده، لكنه كان التبرير الوحيد الممكن لعدم خسارة الاستثمار على رصيد الصدر، والمضي في بناء الآمال على لحظة تصادم مقبلة لا محالة بين الصدر وقوى المقاومة ومن خلفها إيران. والمنطق الوحيد لتعزيز هذا الأمل هو ما يقولونه في تحليلاتهم عن الصدر كمتطلع للزعامة بأي ثمن.
– مع اندلاع الحراك في العراق كان السيد مقتدى الصدر هو السند الحقيقي لشباب الحراك، ومصدر حمايتهم، ومن يضع السقف السياسي بوجه الحكومة، وصولاً لاستقالتها. وكانت التظاهرات الحاشدة للحراك هي تلك التي يدعو إليها الصدر، بالرغم من أن الأميركيين والخليجيين كانوا هم مَن يدير الجماعات المنظمة للحراك ويوفرون التغطيات الإعلامية، ويحرصون على توظيفه بهتافات مناوئة لإيران، ويفرحون بغض نظر السيد مقتدى الصدر عن هذا التوظيف. وكل التحليلات الغربية والخليجية التي تناولت المسار الشعبي العراقي، في ميزان الحضور الإيراني كانت تقرأ الحراك وموقع السيد مقتدى الصدر كبيضة قبان يشكل موقعها اختلالاً بالتوازن الذي تسعى قوى المقاومة وإيران لتحقيقه، حتى وقع اغتيال كل من القائد قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس.
– جاءت الدعوة لإخراج الأميركيين من المنطقة رداً على الاغتيال،.فكانت المفاجأة الأهم في تاريخ المتابعة الأميركية الخليجية تصدُّر الصدر للدعوة، وتلاها اجتماع قوى المقاومة خلفه، كمثل اجتماعها خلف رئيس الحكومة في المواجهة الرسمية الهادفة لإخراج الأميركيين، وجاء تصويت النواب المتأثرين بمواقف الصدر مع إقرار المجلس النيابي للتوصية الموجهة للحكومة لبدء إجراءات إخراج الأميركيين أول الغيث، وتأتي الدعوة التي أطلقها السيد الصدر للتظاهرة المليونية تحت العنوان ذاته مصدر القلق الأكبر، حيث سيخرج العراقيون بكل طوائفهم تلبية لدعوة الصدر، ومن يتحفظ على دعوات آتية من كنف قوى المقاومة وعلاقتها بإيران لا يستطيع التحفظ على دعوة الصدر بصفته رمزاً للوطنية العراقية الصافية. ومَن أطلق عليه هذا اللقب لا يملك القدرة على نزعه عنه لكونه يدعو لإخراج الأميركيين من العراق.
– خسرت أميركا وخسر الخليج الرهان الأكبر وسيخسرون ما بعده بفعل هذا الموقع الطبيعي للسيد مقتدى الصدر الذي لم يتمكّنوا من فهمه، ولا قراءته، كما فعل حلفاؤهم في لبنان في رهانات مماثلة على موقع الرئيس نبيه بري في خصومتهم مع حزب الله، مع حفظ الفوارق بين القوى والأشخاص والبلدان.