البند المغيب في سجالات التأليف
غالب قنديل
كعادتها في مناخ التأليف الحكومي تطوف نقاشات وسجالات عبر وسائل الإعلام تتصل بالتركيبة الحكومية وحصص القوى المشاركة أو الداعمة ودفاتر شروط تسمية الوزراء ويتفاقم تبادل الاتهامات بالعرقلة على حد سكين الوقت الذي لايرحم بينما تزدحم المشاكل الضاغطة على عيش الناس اليومي .
يتزايد التوتر والقلق الشعبي بينما تختلط الشكوى من فوضى الأسعار وارتفاعها بهلع المودعين الصغار على مدخراتهم المجوزة عنهم بينما تتسارع الأخبار عن توجه المزيد من الشركات والمؤسسات إلى الإقفال وصرف المزيد من العاملين لديها وغير ذلك من تدابير التكيف مع الانهيار المالي والاقتصادي وجمود الأسواق.
في هذا المناخ يستمر ويتجدد شعور الشباب الذي جذبتهم فكرة الانتفاضة في مراوحة وإحباط غافلين عن العلة التي أخذتهم إلى الحلقة المفرغة وهي غياب برنامج واضح وقيادة واضحة في حين تنصرف غالبية الناشطين والمحركين في الساحات إلى بلورة تجمعات سياسية تؤمن فرص الترشح إلى المناصب النيابية والوزارية بدعم من الشبكات الفاعلة المنتمية إلى معسكرات التسيير والإمداد الغربية ومن المنابر الإعلامية الحراكية التي امسكت بمفاتيح تشكيل الرأي العام وهيأت الظروف المناسبة لفوضى متدحرجة منذ شهر أيلول الماضي وبثت اوهام التغيير والمحاسبة.
يغيب عن هذا المشهد السؤال الأهم حول برنامج الحكومة العتيدة وخطة عملها ويتحاشى الجميع فتح هذا النقاش الذي تحصره وسائل الإعلام بدائرة من خبراء يرتبطون بشركات ومعاهد غربية تتبنى أفكارا مسبقة لتجديد النظام الريعي بينما تتركز انظار الواقع السياسي على حقن الإنعاش المتخيلة في سلة سيدر وبغض النظر عما فيها من شروط سياسية تمس بالسيادة وتتناغم مع مسار الضغط الأميركي القاتل على المنطقة وبلدانها.
يطرح نفسه بالمناسبة سؤال بديهي عن التعطيل المتعمد لتصريف الأعمال الحكومي ومدى ارتباطه بمشيئة خارجية ما قضت بترك الحبل على الغارب دون مرجعية سياسية فعلية للقرار في التعامل مع القضايا الكثيرة العالقة التي تمس مصالح السواد الأعظم من الناس بحيث تركت الأسواق والمصارف والقطاعات الاقتصادية المختلفة رهينة استنساب القوى الاحتكارية القابضة وتدابيرحاكم المصرف المركزي ونهجه في التعامل مع الوضعين المالي والنقدي وفي ظل خلل هيكلي يعيشه المصرف منذ زمن بغياب مجلسه المركزي الذي يفترض أن يعمل برئاسة الحاكم وترتبط به صلاحيات كثيرة في الظروف العادية والاستثنائية على السواء.
البرنامج الحكومي وخطة تنفيذه بسلة من الإجراءات هي النقطة الأهم في أي نقاش حول الأزمة وهو البند المغيب عمدا عن جميع السجالات والنقاشات لصالح الشغب الغوغائي وخطب السقوف العالية للحراكيين المشحونين احيانا بطموحات شخصية باتت تثير انفضاضا عنهم وخلافات في صفوفهم بينما يشمل هذا العيب التكويني اللبناني النافر في ضفة الحراكات المتشعبة قوى وقيادات وشخصيات سياسية يفترض انها تمتلك الخبرة والقدرة وهي متقاربة في رؤاها لكنها عاجزة عن بلورة اطر موحدة ومشتركة في التعامل مع الأحداث.
برنامج الخلاص المغيب هو اللغز الرئيسي في الوضع اللبناني الذي يتحول الخطاب السياسي فيه إلى تكرار مضجر لتوصيف الكارثة الزاحفة بلغة تهويلية احيانا ومع العمى الكلي عن فرص الإنقاذ الحقيقي وما تقتضيه من الانتقال إلى نموذج منتج ومستقل قادر على المبادرة بالتوجه شرقا لإقامة شراكات جدية ومجدية.
طبعا هذا الخيار لن يكون نزهة وهو سيقابل من معسكر الهيمنة الأميركية بردود فعل قاسية وصعبة بشاهد ما حصل في العراق في اعقاب توقيع رئيس الحكومة عادل عبد المهدي لاتفاقية ضخمة مع الصين وتهديده شخصيا من قبل الأميركيين ثم ما جرى من احداث واضطرابات حركها الأميركيون لوضع البلاد على شفير حرب اهلية طاحنة.
لم يعد لبنان قادرا على مواصلة العيش في نموذج ريعي تابع يسحق فرص نمو الإنتاج ولم يعد لبنان قادرا على تحمل تبعات التقاسم الطائفي للريوع التي شحت وتراجعت كما لم يعد بمقدوره تجديد فرص الحياة في علبة الهيمنة الأميركية المانعة لأي تواصل مع سورية والعراق وإيران والصين وروسيا حيث الفرص الحقيقية للانتعاش المالي والاقتصادي ولإحياء دورة الانتاج والعمل على توفير العديد من احتياجات البلاد لانتشالها من الأزمة الخانقة.
المطلوب خطة شاملة لإعادة الهيكلة الاقتصادية والمالية ولتنفيذ البنود المعلقة من اتفاق الطائف لتغيير قواعد إنتاج السلطة السياسية وقبل كل شيء تنهي صيغة اليد المرفوعة التي تبيح سيطرة القوى الاحتكارية التي نهبت الكثير من خيرات البلد ومن مدخرات اللبنانيين المكدسة في سندات الخزينة وقبل كل شيء إن ذلك كله رهن بإرادة سياسية متحررة من قبضة الهيمنة الأميركية الغربية .