سباق بين تشكيل حكومة لبنانية جديدة والانفجار الإقليمي الكبير: د. وفيق إبراهيم
يثيرُ المشهد السياسي اللبناني تساؤلات كبرى الى درجة الاعتقاد أن هناك طبقة سياسية داخلية تُمسك بالحكم بشكل قويّ وتمتلك القدرة على تجاوز انعكاسات أزمة الإقليم على لبنان.
فتواصل اختلاق معوقات تعرقل تشكيل حكومة جديدة في مرحلة صعبة يجتاز فيها لبنان أزمتين مدمرتين ومترابطتين: الانهيار الاقتصادي والإقليم المهرول بسرعة نحو انفجار حربي كبير.
لا بدّ هنا من الإشارة الى عمق اندماج القوى السياسية اللبنانية بالمحاور الاساسية الخارجية، ما يؤكد على ان التداعيات الإقليمية لا تتأخر في اصابة لبنان بضربات في وحدته الداخلية واقتصاده المترنح.
فهناك محور أميركي – خليجي بخلفية إسرائيلية ودور تركي مساند بإيديولوجيا الاخوان المسلمين.
بالمقابل هناك المقاومة التي تمكنت من نسج تحالفات مع قوى مسيحية وسنية ودرزية وأحزاب وطنية على قواعد دعم الاستقرار الوطني في لبنان بالمواجهة الدائمة للكيان الإسرائيلي والإرهاب، وتشكيل حكومات وحدة وطنية للحيلولة دون الاشتباك الداخلي الذي يضعضع الوحدة الداخلية حتى بحدودها الدنيا.
لكن ما حدث في الآونة الأخيرة، دفع باتجاه إحداث فراغ دستوري مقصود، يوحي بأوامر خارجية من جهتين أميركية وخليجية ألزمت رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري بتقديم استقالة حكومته وعرقلة تشكيل حكومة جديدة. وهذا ما فعله الى ان ضاق رئيس الجمهورية وتحالفاته به ذرعاً، متفقين على تكليف الدكتور حسان دياب لتشكيل حكومة تكنوقراط، ففهم دياب أن لديه صلاحيات مطلقة بانتقاء اسماء وزراء متخصصين لديهم استقلالية كاملة، بما يوفر للحكومة إجماعاً سياسياً او شبه إجماع، لكن الاحزاب السياسية التي أيدته في التكليف اعتبرت ان في وسعها ادخال سياسيين من الدرجة الثانية في الحكومة او اختيار تكنوقراط منحازين اليها بالانتماء او بالهوى.
فجاء الهجوم الأميركي على حزب الله العراقي عند الحدود العراقية – السورية، وحصار السفارة الأميركية في العاصمة العراقية بغداد، وصولاً الى الاغتيال الأميركي للشهيدين الجنرال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس.. جاءت هذه الهجمات لترفع من حدة الصراع المفتوح بين الأميركيين وحلفائهم ومحور المقاومة.
كما أن القصف الإيراني الاخير لقاعدة عين الاسد الأميركية في العراق زادت من احتمالات الانفجار الإقليمي الكبير إنما مع مهل زمنية تدريجية تتطلبها عمليات التحشيد والتدبير ورص الصفوف والاستعداد.
لكن الطبقة السياسية اللبنانية لم تستفد من هذه المراحل، كانت تزعم حيناً أنها مع حكومة مستقلة تماماً، وتقوم في السر بنصب كمائن لا تفعل أكثر من إرجاء التشكيل الحكومي وعرقلته.
ولم تأبه لحاجات الرئيس المكلف دياب بتشكيل حكومة فيها غالبية من المستقلين، وذلك لتزويده بإمكانات قوية لمواجهة بعض انواع التطرف السني الذي يستهدفه بذريعة خروجه عن إجماع سني «مزعوم».
كما ان هذه القوى السياسية لم تهتم بالأولوية التي يجب منحها لمكافحة الانهيار الاقتصادي ولا تزال حتى اليوم تتصرف بمعزل عن أي تأخير للازمة الاقتصادية المخيفة على سلوكها السياسي، حتى انها كانت تلجأ منذ أسابيع عدة لتسويق أسماء وزراء ليتبين انهم موادٌ للاثارة الاعلامية فقط، فيما الحقيقة ان مختلف فئات الطبقة السياسية كانت تطرح اسماء تكنوقراط موالين لها وسياسيين من الصف الثاني، ينتمون اليها ولم يسبق لهم ان مارسوا ادواراً وزارية.
اما في الوقت الحالي فالوضع اصبح اكثر صعوبة لأن حزب الله في الحلف المؤيد للحكومة، لم يعد بوسعه توفير وقت كافٍ لمعالجة الازمة الداخلية وذلك بعد التأجيج الإقليمي الأخير الذي يعيد وضع الاستقرار الوطني الى اولوياته اي مجابهة «إسرائيل» والإرهاب، بالإضافة الى ادواره الإقليمية لكونه جزءاً اساسياً من حلف المقاومة الممتد من اليمن الى بيروت.
هذا لا يعني ابتعاده النهائي عن الداخل اللبناني، لكنه أصبح يفضل الاتفاق المسبق على البيان الوزاري مع وزير خارجية يلتزم به بشكل مسبق، وهذا ضروري لعدم حدوث مفاجأة بتكليف وزراء ليسوا ملزمين ببيان وزاري واضح حول استقرار وطني يرتكز على الثلاثية الذهبية الشعب والجيش والمقاومة. بما يمنع اي اجتهادات داخلية لبروز اصوات سياسية وربما وزارية تطالب بحياد لبنان والنأي به عن مجابهة الأميركيين والإسرائيليين. وهذه اصوات عاد اللبنانيون الى سماعها من بيانات احزاب القوات والكتائب والقوات والمستقبل. وهذا ينعكس على فئات شعبية وربما وزارية، بما يؤدي الى تعطيل جديد للحكومة المرتقب تشكيلها، وإقحام لبنان في مزيد من الاضطراب السياسي الذي يدفع الى مزيد من الهاوية الاقتصادية الرهيبة.
بالامكان اذاً العودة الى حكومة تكنوقراط مستقلة، منضبطة ببيان وزاري ملتزم بالثلاثية الذهبية، لتعمل بسرعة على معالجة التدهور الاقتصادي المريع قبل فوات الأوان.
كما أن بإمكانها الاستناد الى مثلث روسيا والصين وفرنسا، مع ابتهالات دولة الفاتيكان بما يؤسس خط ارتكاز يمنع الانهيار الدراماتيكي للكيان السياسي اللبناني هذه المرة، وليس لنظام سياسي اصبح مفلساً هذه المرة ومن دون أي امكانات.
وهذا يتطلب من الرئيس ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري الإسراع لبناء حكومة على اسس البيان الوزاري المذكور.اما انتظار عودة سعد الحريري فإن عودته الى القبول بالثلاثية الذهبية أمر صعب الى درجة الاستحالة في ظرف ينقسم فيه بين حلفائه الخليجيين والأميركيين وحلف المقاومة. قد يحتاج هذا الامر الى هدنة بين المتحاورين لكن الآفاق الحالية تنذر بأخطار أكبر بما يدعو الى العودة الى حكومة دياب المرصّعة بالثلاثية المقيدة.
(البناء)