جريمة الاغتيال وصراع المحورين
غالب قنديل
واهم كل من يظن ان قرار تنفيذ جريمة اغتيال القائد قاسم سليماني والقائد العراقي أبو مهدي المهندس يمكن ان تكون حدثا عابرا او عاديا تقرر في لحظة انفعال من ضمن تسيير الشؤون اليومية للآلة العسكرية الإمبراطورية الجبارة الجاثمة على صدر المنطقة واهلها ونفطها الذي تفنن الرئيس الأميركي في التعبير عن شهوة الاستيلاء عليه بأي ثمن.
منذ احتلال العراق اختبر محور المقاومة مرحلة قاسية من الصراعات والحروب التي قادتها الإمبراطورية الأميركية لفرض هيمنتها التامة وكانت “اسرائيل ” شريكتها العسكرية والأمنية الأولى فتبلور نمط جديد من الإدارة الأميركية الصهيونية المندمجة في عمليات التخطيط والتنفيذ.
مصدر ذلك التحول هو انكسار الهيبة الصهيونية في العام 2000 إثر اندحار الاحتلال من الجنوب اللبناني الذي مثل نقطة انطلاق حفزت المخططين الأميركيين إلى تبني فكرة تعويض الضعف الإسرائيلي وتراجع الهيبة والقدرة بوجود عسكري أميركي اطلسي مباشر تضخم باضطراد منذ غزو العراق الذي اختير لأسباب عديدة في مقدمتها موقعه الاستراتيجي الهام والحساس الواقع بين قطبي الحلف السوري الإيراني الذي انطلق منذ قيام الثورة الإيرانية وحقق إنجازات دفاعية كبرى وراكم قدرات مهمة وقدم الدعم المتواصل والاحتضان التام لفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
بعد حروب وصولات وجولات تبلورت قواعد اشتباك أرغمت الإمبراطورية على الرضوخ لها بنتيجة توازن القوى وبعد تنامي مقدرات الردع لدى محور المقاومة والاستقلال وبالتالي نشأت حالة من المساكنة السياسية الاجبارية على مساحة المنطقة طبقت في سياقها خطط الاحتواء المتبادل وارتسمت صيغ لربط النزاع وإدارته لم تستثن اللقاءات المباشرة والمباحثات الثنائية أحيانا وكما كان اللواء قاسم سليماني القائد المقاتل على جبهات محور المقاومة اعتبره الأميركي المفاوض المفضل لعقد التفاهمات والذي استمات الجنرالات الأميركيون في العراق في السعي إلى لقائه لوضع ترتيبات المساكنة وتنظيمها موضعيا كما حصل عامي 2004 و2011 وعلى مفاصل حاسمة.
لم تبطل المساكنة بقواعدها المتحولة وفقا لظروف ساحاتها وميادينها فعل التناقض الرئيسي الحاسم بين نزعة الهيمنة واللصوصية الأميركية التي تقود محورا يضم الكيان الصهيوني وسائر الحكومات الرجعية التابعة في المنطقة ونزعة التحرر والاستقلال التي تتمسك بها إيران وسورية وسائر حلفاء محور المقاومة.
في حصيلة سنوات من الصمود والقتال تمكن محور المقاومة من شل القوة العدوانية الصهيونية واستطاع بتكامل الجهود والتضحيات دحر غزوة التكفير القاعدية الداعشية التي كانت حربا أميركية شاملة بالوكالة وحصاد الانتصارات تمثل بنهوض الدولة الوطنية السورية وتعافيها ونجاة العراق ولبنان من طواحين الدم بينما أفشل المحور الثورات الملونة الأميركية التي استهدفت زعزعة إيران من الداخل وتصدى بقوة للحرب الاقتصادية الضروس المجسدة بما سماه الرئيس الأميركي موجة العقوبات القاتلة التي طالت سورية وإيران ولبنان في حين أطلق المحور الأميركي الصهيوني وأدواته الإقليمية حرب إبادة في اليمن الذي يعرف الخبراء الأميركيون والصهاينة حرارة اعتناق شعبه وقواه الحية للفكرة الوطنية التحررية والقومية ولقضية فلسطين في جغرافية شديدة الخطورة والحساسية على الممرات البحرية وهم لذلك يستشعرون مخاطر استقلاله بإمكانات وقدرات تؤهله لبلورة توازن جديد يقلب معادلات الخليج ويرفد محور المقاومة بطاقة هائلة على جميع الصعد.
جاء اغتيال القائدين سليماني والمهندس بمثابة عمل استباقي خشية مخاطر انتقال محور المقاومة إلى مرحلة جديدة بعد اكتمال مراكمة التحولات المتدرجة وتحقق الانتصار التام في سورية واليمن وفي ظل ما حققته فصائل المقاومة العراقية من نفوذ شعبي عبرت عنه نتائج الانتخابات التي أفرزت حكومة دشنت فتح الحدود مع سورية وباشرت التوجه شرقا باتفاق ضخم مع الصين بينما استطاعت المقاومة وحلفاؤها في لبنان احتواء محاولات الانقلاب المتلاحقة وأظهرت الوقائع تعاظم قدرات المقاومة الفلسطينية التي اضطرت القيادة الصهيونية إلى التراجع والرضوخ للتوازنات القاهرة أمام رقعة فلسطينية محاصرة هي قطاع غزة.
لم تبارح فكرة شن حرب شاملة ساحقة ماحقة ضد محور المقاومة والتحرر خيالات القادة والمخططين الاستعماريين الجامحة لكن استعصاء التوازنات القاهرة كان حصيلة جميع اختبارت الاشتباك وجس النبض وهكذا تلاحقت الانكسارات السياسية والمعنوية لحملات التهديد والغطرسة المتنقلة ضد إيران وسورية ولبنان واليمن وقطاع غزة وفي العراق نفسه.
كانت الغاية من جريمة الاغتيال هي زعزعة تماسك المحور وإضعاف قيادته المشتركة التي تولاها سليماني بشخصيته الكاريزمية وببراعته الميدانية وتفوقه في التخطيط والقيادة وبمراكمته لانتصارات باهرة عززتها قدرته على بناء جسور الثقة والتعاون داخل محور المقاومة وبين المحور مجتمعا والحليف الروسي الفاعل في المنطقة.
لقد شكل القائد سليماني رأس حربة الجناح العربي الإيراني في معسكر الاستقلال والتحرر ورفض الهيمنة الأميركية في المنطقة والعالم وهذا هو سبب اغتياله بالصورة الإجرامية الوقحة التي تمت أي بأمر رئاسي اميركي وبيد جيش الاحتلال الأميركي في العراق وخلافا للتوقعات الأميركية فقد مثلت الجريمة انعطافة حاسمة في مسيرة التحرر ومناهضة الهيمنة وظهرت معالمها من خلال تماسك إيران وتجدد ثورتها الشعبية التحررية وتضامن سائر شركائها في المحور ومع صعود نزعة التحرر وتلاحق دعوات طرد الوجود الأميركي من المنطقة ورفض الهيمنة بجميع أشكالها وهو ما فتح مسارا جديدا من الصراع حول مستقبل الشرق العربي تعمده وتظلله الأخوة الإيرانية العربية التي ازدادت صلابة ومتانة رغم جميع المحاولات المستمرة لزعزتها وللنيل منها طوال العقود الماضية.